صوت (ليودميلا أوليتسكايا) يعلو جليًا في رواية صونيتشكا
انجذب غريبو الأطوار هؤلاء جميعهم، بعد أن كشفوا عن أن نفسهم في بداية (ذوبان الثلج) المُخادع
تتمتع الكاتبة الروسية المعاصرة (ليودميلا أوليتسكايا) بسهولة سرد الأحداث، ولكنها أحيانا لا تترك مساحة لأبطالها في الدخول في حوار ملموس وجدل عميق؛ لعلها تفعل ذلك عن قصدٍ ودراية، فتطلق لخيالها الواسع والحذق يتلاعب بأقدار أبطالها، لذلك نجد فعل (كان) يحتل مساحةً كبيرةً في هذه الرواية وفي مخيلة الكاتبة.
تدور أحداث هذه الرواية في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين، تقدم لنا الكاتبة فتاة اسمها (صونيتشكا) تحب الأدب حبا جمًا. تغير كبير يطرأ في حياة (صونيشكا)، حين تتزوج من الشاب الرسام (روبرت فيكتوروفيتش)، وتعاني معهُ صعوبات الحياة، وبعد ولادة الطفلة (تانيا) تشق السعادة طريقها في حياتهم وتكبر تانيا المحبة لنفسها. إلا أنها لن تدوم تلك السعادة بسبب قدوم صديقة ابنتهم (ياسيا) وهي فتاة جميلة ويتيمة ويمكن القول بأنها طارئة على حياتهم. كانت طيبة (صونيتشكا) هي من سمحت لتلك الفتاة الدخول إلى حياتهم، وكانت السبب الرئيس في جعل زوجها يهملها ويمارس الجنس مع تلك الفتاة اللعوبة التي أغرتهُ ببياضها الساطع وجمالها الفاتن، وفي نهاية القصة يموت زوجها على صدر تلك الفتاة اللعوبة التي احتضنتها (صونيتشكا) واعتبرتها بمثابة ابنتها (تانيا).
بعد هذه المقدمة البسيطة حول الرواية، سوف لن اتحدث عن أبطال الرواية، بل عن الكاتبة من خلال نصها هذا، لان نصها ملغومًا بالمفاجئات النقدية، والسؤال المفروض الذي يطرح في هذه الرواية: ماذا تريد أوليتسكايا أن تقول لنا ما بين سطور هذه الرواية؟ ببساطة، لا بد أن اشير إلى نقطة مهمة وجوهرية في هذه الرواية، أن الكاتبة لا تخفي مشاعرها في هذا العمل، ويظهر صوتها جليًا في نصها، بل من الممكن أن نطلق عليه “خروج عن النص” إن صح التعبير، لذا سأقتبس بعض من نصوصها لتكون شاهدًا على حديثي هذا، تقول الكاتبة:
لم يكن (روبرت فيكتوروفيتش)، الذي تغذَّى على خبز الحرية الباريسي، قادرًا حتى على أن يتخيل نفسه وهو يعمل عملًا احترافيًا في وظيفة لدى الدولة الممُلة والكئيبة، حتى لو استطاع التصالح مع تعطشها الغبي إلى الدم، وكذبها الخالي من الحياء.
المقصود في هذا الاقتباس السلطة السوفيتية، وهنا الكاتبة لا تدع أحد أبطالها يدلو بدلوه بطريقة عفوية، فكانت هي المُعبر عما يدور في خلجات نفسه، بل هي من تصدر الأحكام على كل حركة في هذه الرواية، وكأنما أطلقت العنان لحريتها التي كانت تفتقر لها في زمن السلطة البلشفية، لذلك هذا العمل رأى النور بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، فلم تقف إلى هذا الحد، بل حددت موقفها من الفترة التي عُرفت بذوبان الثلج بكل وضوح، فتقول:
انجذب غريبو الأطوار هؤلاء جميعهم، بعد أن كشفوا عن أن نفسهم في بداية (ذوبان الثلج) المُخادع.
هذه الأحكام المقصودة التي اوردتها (أوليتسكايا) بنصها هذا لم تأتي من فراغ ، بل جاءت بعد معاناة طويلة في ذاكرتها المشحونة بتصورات سلبية اتجاه هذه السلطة البائسة بكل معنى الكلمة، فتجدها تعبر عن موقفها بحزم وبقوة فيما يخص هذه السلطة الدموية.
وأخيرًا، مضى على ظهور هذا العمل أكثر من عقدين من الزمن الا أنه يعتبر نقطة تحول في مسيرتها الإبداعية، والتي على إثرها صورت أكثر الفترات الزمنية تعقيدًا وهي فترة الخمسينات والستينات من القرن المنصرم في تاريخ روسيا، واستطاعت ببراعة أن تؤرخ هذه الحقبة بطريقة سلسة وإبداعية.