المعرفة والفكر الفلسفيترجمات حصرية

#مارسيل_بروست عن سبب القراءة

«تبدو نهاية حكمة كتاب ما على أنها مجرد بداية لحكمتنا؛ لذا فإنه في اللحظة التي يفرغ فيها الكتاب من إخبارنا كل ما في وسعه فإنه يثير فينا الشعور بأنه لم يخبرنا بأي شيء»

كيف لتلك الرموز السوداء الصغيرة على صفحة أو شاشة بيضاء أن تحدث مثل هذه الموجات الهائلة في القلب والعقل والروح؟ لماذا نسلم أنفسنا للكتب فقط لندرك فيما بعد أن آفاقنا اتسعت ودواخلنا تبدلت واعترتها الدهشة؟ رأى (غاليليو) أن القراءة وسيلة لاكتساب قوى خارقة، وبعد خمسة قرون، أشاد نظيره المعاصر (كارل ساغان) بالكتب بوصفها «دليل على أن البشر قادرون على عمل السحر»، وكانت الكتب بالنسبة لـ(كافكا) هي «الفأس الذي يحطم البحر المتجمد فينا»، أما من وجهة نظر الشاعرة (ماري روفل) فإن «قراءة أحدهم لكتاب ما هي دلالة على أن هذا العالم ليس عبثيًا»، وعبرت عن ذلك (ريبيكا سولنيت) في تأملها الشعري عن سبب القراءة والكتابة بقولها: «الكتاب قلب لا ينبض إلا في صدر قارئه».

لماذا نقرأ؟

واحدة من أصدق وأجمل الإجابات على هذا السؤال الخالد يطرحها لنا (مارسيل بروست) [١٨٧١-١٩٢٢م].

بحلول منتصف العقد الثالث من عمره، كان (بروست) قد نشر بالفعل عدة مقالات في مجلات أدبية مرموقة ولكنه لم يكن قد كتب أي رواية بعد. وفي عامه السادس والعشرين، أي بعد أن كتب ألف صفحة في محاولته الأولى، وجد نفسه متخبطًا وغير قادرٍ على جعل الكتاب متسقًا؛ كان ذلك عندما اكتشف الناقد الفني الفيكتوري العظيم (جون راسكن)، والذي فتحت كتاباته ذهنه.

كرس (بروست) سنواته الثلاث التالية في استكشاف ذلك الإنتاج الغزير من أعمال (راسكن)، وبالرغم من لغته الإنجليزية الركيكة، إلا أنه شرع في ترجمة أكثر الكتب التي أثرت فيه إلى الفرنسية وأضاف لها بهوسٍ تعليقات توضيحية في الحواشي. وكتب بعد عدة سنوات، في المجلد السابع والأخير من سلسلته الروائية (البحث عن الزمن المفقود)، تحفته الشهيرة والمبنية على المواضيع التي حاول استجلائها في تلك المحاولة المحبطة ذات الألف صفحة:

أدركت أن الكتاب الأساسي، الكتاب الحقيقي، هو ذلك الذي لا يحتاج الكاتب الكبير لابتكاره، بالمعنى الدارج للكلمة؛ ذلك لأنه موجود بالفعل في أعماق واحد منا وما على الكاتب سوى ترجمته، إذ أن مهمة الكاتب وواجبه هما ذاتها مهمة المترجم وواجبه.

اتخذت ترجمات (بروست) لـ(راسكن) مكانة خاصة بها وجاءت لتجسيد ما وصفته (فيسوافا شيمبورسكا)، الشاعرة البولندية العظيمة والحائزة على جائزة نوبل في الأدب، في مناقشة عملها الخاص بأنه: «تلك المعجزة النادرة عندما تتوقف الترجمة عن كونها ترجمة لتصبح نسخة أصلية ثانية»، أصبحت مقدمة إحدى ترجماته لـ(راسكن) معجزة أصلية ثانية لدرجة أنها نشرت فيما بعد بشكل منفصل باسم (أيام القراءة)، وفيه يمعن (بروست) النظر في التناقضات الممتعة للقراءة:

تتمثل القراءة, على عكس المحادثة، في تلقي كل منا فكرة شخص آخر بينما هو جالس بمفرده، أو بعبارة أخرى، بينما نستمر في التمتع بتلك القوى الفكرية التي نمتلكها في العزلة والتي تقصيها المحادثة على الفور؛ وبينما تبقي أرواحنا أبوابها مشرعة للإلهام، ولكنها تظل صارمة في نتاجها المثمر على نفسها.

يتأمل (بروست) في اللذة المطلقة والتي يتعذر كبتها لقراءات الطفولة:

ربما لم نعش أية أيام من طفولتنا بشكل كامل كتلك التي ظننا أننا تركناها خلفنا دون أن نعيشها مطلقًا؛ تلك الأيام التي قضيناها برفقة كتاب رائع، وتملّصنا من كل ما ملأ أيام الآخرين، على ما يبدو، باعتبارها عوائق مبتذلة لمتعتنا المقدسة –اللعبة التي من أجلها جاء صديق باحثًا عنا عند أكثر فقرات الكتاب تشويقًا، النحلة المزعجة أو شعاع الشمس اللذان أجبرانا على رفع أعيننا عن الكتاب أو تغيير مكاننا، والحلوى التي كلفنا بإحضارها لكننا تركناها دون مساس على المعقد المجاور بينما أصبح شعاع الشمس أوهن في زرقة السماء فوق رؤوسنا؛ أو ذلك العشاء الذي اضطررنا للعودة إلى المنزل من أجله، والذي لم نفكر خلاله سوى في الهروب إلى الطابق العلوي والانتهاء، حالما نفرغ من الطعام, من الفصل الذي قوطعنا خلاله- كان على قراءاتنا ان تمنعنا من النظر إلى كل تلك الأمور على أنها أي شيء آخر عدا عن كونها مطالب اقتحامية، ولكن على العكس من ذلك، فقد حفرت في أذهاننا ذكريات سعيدة لتلك الأشياء [ذكريات أكثر قيمة بالنسبة لنا الآن مما كنا نقرأه بشغف في ذلك الوقت]، ذلك أنه إذا ما أتيح لنا اليوم تصفح تلك الكتب, وذلك فقط لأنها الرزنامة الوحيدة المتبقية من تلك الأيام البائدة، فإننا سنقلب صفحاتها على أمل رؤية انعكاس تلك المنازل والبحيرات التي اندثرت.

ترتد في مقولة (بروست) أصداء الحجة الباهرة لـ(هيرمان هيسه) عن السبب وراء اعتبار عدم القراءة أسمى أشكال القراءة، ويفترض الأول أن أعظم مكافأة للقراء هي:

هذه إحدى الخصائص العظيمة والخارقة للكتب الرائعة [والتي تمكننا من فهم ذلك الدور الأساسي والمحدود في آنٍ واحد والذي تلعبه القراءة في حياتنا الروحية]: قد يطلق عليها المؤلف اسم الاستنتاجات ولكنها محض استفزازات بالنسبة للقارئ. بإمكاننا الشعور أن حكمتنا تبدأ عندما يصمت المؤلف، تمامًا في تلك اللحظة التي نريد فيها أن يعطينا إجابات بينما كل ما يمكنه إعطاؤنا هو الرغبات. إنه يوقظ فينا هذه الرغبات فقط عندما يدفعنا إلى التفكير في الجمال المطلق الذي لا يستطيع بلوغه إلا من خلال بذل أقصى جهوده الفنية… تبدو نهاية حكمة كتاب ما على أنها مجرد بداية لحكمتنا؛ لذا فإنه في اللحظة التي يفرغ فيها الكتاب من إخبارنا كل ما في وسعه فإنه يثير فينا الشعور بأنه لم يخبرنا بأي شيء.

في رأي يستحضر فرضية (سوزان سونتاغ) التي تقول فيها أن الكتب «تعطينا نموذجاً للسمو الذاتي… إنها وسيلتنا لنصبح بشرًا كاملين». يرى (بروست) أن الكتاب العظيم يرسم لنا الطريق إلى أنفسنا، وما وراء أنفسنا:

تقف القراءة على أعتاب أرواحنا؛ إذ بإمكانها أن تقودنا إلى ذواتنا ولكنها لا تستطيع تشكيلها […] إن كل ما نحتاجه إذًا هو تدخل يحدث في أعماق ذواتنا بينما يجيء من شخص آخر، ذلك التدخل الذي يكون الدافع لعقل آخر والذي نتلقاه نحن في خضم عزلتنا.


بقلم: ماريا پوپوڤا

ترجمة: آمال السيد

مراجعة وتحرير: أحمد بادغيش

[المصدر]

زر الذهاب إلى الأعلى