الإنتاج الفني والسرديترجمات حصرية

محمد شكري المثير للجدل والجانب الخفي لمدينة طنجة

"إنه ليس أدبًا بلغة ثانوية، ولكنه أدب كتبته أقلية داخل لغة رئيسية"

(روبين كارافكا فرنانديث)

مقالة بمناسبة صدور كتاب (محمد شكري) للكاتبة الإسبانية (روسيو روخاس-ماركوس) [Rocío Rojas-Marcos]


    كانت إسبانيا وفرنسا تديران المغرب. أمضى فترات طويلة في طنجة ويقول دائما إن المدينة التي طالما تحدثنا عنها لا علاقة لها بالمدينة التي يعرفها. وكان هؤلاء المنحدرون من بلدان أخرى متحمسين لأن يكونوا جزءا من خيال واقعي بعيدا كل البعد عن الحياة اليومية للغالبية العظمى من سكانها الأصليين. ما تمَّت قراءته وسماعه حوَّلَها إلى نوع من الجنة الثقافية حيث تدفَّقت الحريات، مما ساهم في بيع الكيف في أكشاك التبغ، على النقيض من الاستبداد الحكومي المفترض الموجود في الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة أو فرنسا.

من الأفضل أن لا تتحدث إسبانيا، في المغرب كانت هناك حرية أكبر مما كانت عليه في وطننا “العظيم والحر”، مما تسبَّب في هجرة عدد لا يُستهانُ به من الإسبان إلى هناك لأسباب سياسية أو اقتصادية. هكذا كانت حالة والِداي، هناك تزوَّجا وأنجبا ولديهما الأوَّلين، كانت والِدتي تقول أن أسعد أيام حياتها كانت في بلد المغرب.

   أعتقد أن هذا جعلني أركز على المدينة التي سافرت إليها في مناسبات عديدة، والتي تناولت الشاي والعصير في المقاهي -ليس فقط في مقهى الحافا -، لقد زرت الأسواق والشواطئ ومحلات الحلويات والمكتبات -وليس فقط مكتبة الأعمدة [Des Colonnes]- ، والنادي السينمائي -نقطة التقاء مع الأصدقاء المقيمين- وحي مارشان، حيث عاش والداي.

   كانت المثالية المستشرقة مفتونة بقصص مثل دعوة (جيرترود شتاين)¹ و(بول بولز)² للقيام برحلته الأولى إلى المدينة التي حلَّ بها، ليصبح المُضَيِّف بمدينة  طينجيس القديمة للكُتاب والموسيقيين وجميع من انقطعت بهم السبل: (ترومان كابوتي)³، (ألن غينسبرغ)⁴، (جاك كيرواك)⁵، (جونا بارنز)⁶، (باتريشيا هايسميث)⁷، (صامويل بيكيت)⁸، (فرجينيا وولف)⁹، (غريغوري كورسو)¹⁰، (جان جينيه)¹¹، (تينيسي ويليامز)¹²، (مارغريت يورسينار)¹³ أو (ويليام بوروز)¹⁴ .. ولا تتعلق فقط بالجيل “بيت”[Beat]، كذلك الباراغوياني (أوغوستو روا باستوس)¹⁵، والنيكاراغوي (روبن داريو)¹⁶، والكوبي (أليخو كاربنتييه)¹⁷، أو الرسام التشيلي (كلاوديو برافو) من بين آخرين كثيرين، ساروا في شوارعها، بعضهم  كان قبل الكاتب الأمريكي (بول بولز). الجميع كان حاضرا في المدينة ولكن القليل ربط الصلة بالسكان الأصليين. حضورٌ مع الآخر وبدونه، شيء من ذلك يتكرر الآن.


ما وراء جيل ˮبيت“:

   متشككا، تعرَّفتُ على قصة (بريان جونز)¹⁸،  الذي طُرد من المملكة المتحدة لتعاطي المخدرات والمشاركة في حفلات جماعية لممارسة الجنس، وعلاقته مع الموسيقيين لموسيقى جهجوكة [Jajouka]، وهي قرية يصعب العثور عليها والتي اكتشفنها في الآونة الأخيرة عن طريق  صديقنا ‘موحا’. جونز أصبح أكثر إعجابا وأخذ مسافة عن البقية، وخاصة (كيث ريتشاردز)¹⁹. حاولت أيضا أن أفهم لون لوحات (ديلاكروا)²⁰، (بيكون)²¹، (ماتيس)²² أو (فان ريسلبيرغي)²³، ولوحات (ماريانو فورتوني)²⁴، (أنطونيو فوينتس)²⁵، (جوسيب تابيرو)²⁶، (فرانسيسكو إيتورينو)²⁷ أو (خوسيه هيرنانديز)²⁸، وبعض هذه اللوحات تمَّ إنجازها على شرفات فندق فوينتس؛ على طاولاتها الرخامية حيث يمكنك اليوم التمتع بمشاهدة مباريات دوري كرة القدم الإسباني وأنت جالس أمامها. كما كان شأن المسرح الكبير لثيرفانتيس، حيث بدأ (خوانيتو فالديراما)²⁹ في تشكيل  مسرحية ˮالمُهاجر“ وعرضها أمام مئات المنفيين، وقد مرَّ على خشبة ذلك المسرح  بعض الفنانين الأكثر شهرة في فترة ما بين الحربين العالميتين مثل؛ (بالدوفي)، (مانويل ديل ريال) أو المغنيين الأكثر شهرة لأغنيتنا الشعبية.

  الأدب هو أفضل طريقة للاقتراب من المدينة. كتابات وكلمات (بيو باروخا)، (إميليو سانز دي سوتو)، (رامون بوينافينتورا)، (كارمن لافوريت)، (خوان جويتيسولو). كتابات (هارو)، (الأب إدواردو هارو تسغلن) مدير صحيفة ˮإسبانيا دي طنجة“، وابنه (إدواردو هارو إيبارس)، مرجع  ثقافة البوب، المؤلف، والشاعر الغنائي لأوركسترا موندراغون و أوركسترا غلوتاماتو يي يي – للفرقة الأخيرة كان ينتمي شقيقه (أوخينيو). استمر التقليد من قبل كتّاب مثل (خافيير فالينزويلا)، (ماريا دويناس)، (أنطونيو لوزانو)، (كلوتي جوزو)، (ليوبولدو سيبالوس)، (خافيير روكا فيسنتي-فرانكيرا)، (بابلو سيريزال) أو الشاعر الطنجيي (فريد عثمان-بنتريا راموس)، الذين يمكننا ربطهم ، كما تقول (روسيو روخاس-ماركوس)، في إطار أدب ثانوي بالمعنى الذي أطلقه جيل (دولوز) و(فيليكس غوتاري) على المصطلح في مقال (كافكا):

إنه ليس أدبًا بلغة ثانوية، ولكنه أدب كتبته أقلية داخل لغة رئيسية.

  الكاتبان الطنجويان اللذان أثارا إعجابي هما (أنخيل فاسكيز) [Ángel Vázquez]، الذي غير اسمه الحقيقي من (أنطونيو) إلى (أنخيل) ليبدو كمصارع ثيران، وهو مؤلف رواية (الحياة الكلبة لخوانيتا ناربوني)، إحدى أفضل رواياتنا في النصف الثاني من القرن الماضي. و(محمد شكري).

نشرت الأستاذة (روسيو روخاس ماركوس) [Rocío Rojas-Marcos] -من مواليد إشبيلية، ١٩٧٩م- مؤخرًا دراسة صغيرة ومثيرةً للاهتمام، (محمد شكري) [دار نشر زوت]، عن الكاتب المولود في بني شيكر، وهي بلدة ريفية تبعد بضعة كيلومترات عن مليلية والناظور.

وهي من أعظم الباحثين بأعمال عن المدينة وأدبها  مثل (طنجة. المدينة الدولية) [٢٠٠٩م]، (طنجة، الوطن الثاني) [٢٠١٨م]، كما ساهمت أيضًا بقصص في مختارات مثل (كوكب اسمه طنجة) [٢٠١٤م]، (مُتآمرو طنجة) [٢٠١٩م] و(حكايات من كتاب) [٢٠٢٠م] الحائزة على جائزة مانويل ألكانتارا للشعر [٢٠٢٠م]، نشرت في نفس العام مجموعة قصائد مأهولة بالكلمات، وبصوت مرجعي لا غنى عن قراءته.

 في ما يقرب من مائة صفحة تغوصُ بنا بين ردهات حياة كاتب تعلم القراءة والكتابة في سن العشرين. يُخبرنا (فريد عثمان بنتريا راموس) [Farid Othman-Bentria Ramos] عن ابن مدينة الصفيح هذا الذي كان يعرفه عندما كان طفلاً:

كانت عمتي آسيا توفر له أحيانًا مأوى عندما كان والده يتسكع معه وتناولُهُ مُؤْنَةً عندما تراهُ جائعًا. قصة طويلة مع المزيد من العوامل، ذكريات غامضة لطفل يبلغ من العمر أربع سنوات.

(محمد شكري)

لم يتحمل (شكري) عنف الشارع فحسب، بل أيضا العنف الأبوي، حيث أساءت والدته معاملته وكذلك شقيقه الذي شهد مصرَعه في رعب على يد والده، الهارب من الجيش الاستعماري الإسباني، الذي لطالما أنكره واستنكره، مصطدما بمجتمع أبوي مثل المجتمع المغربي. باحتكاكه مع الغجر والأندلسيين من تطوان، تعلم الإسبانية مما سمح له في النهاية بترجمة (لوركا) إلى العربية، (الإخوة ماتشادو)، (سوزانا مارش)، (بيكير)، (أليكساندر)، (لابورديتا)، (سيلايا) … عبّر عن نفسه باللغة العربية الشعبية، مازِجا اللهجتين الدارجة و الريفية مع اللغة الإسبانية، والابتعاد عن اللغة العربية الصرفة التي يستخدمها معظم الكتاب، جاعلا أهم مواضعه: البؤس، القسوة، الاغتصاب، الدعارة، الشذوذ الجنسي، الاعتداء الجنسي على الأطفال، الكحول، المخدرات، الجوع، الجريمة …، مواضيع جعلت النخب المثقَّفة تُنكِرُ عليه ذلك – يجب غسل الملابس القذرة داخل المنزل – الأمر الذي لم يمنعه من أن يُصبح الكاتب المغربي الأكثر إثارة للجدل والمعترف به، مُبتعدا من الحياة الدنيوية الفاتنة. على القوائم السوداء، كما (سلمان رشدي).

ستمر عدَّة سنوات قبل أن يُمكن اقتناء نصوصه من المكتبات المحلية. فقد خضعت للرقابة في دول مثل مصر، إيران آيات الله وضعوها على القائمة السوداء رُفقة كتب (سلمان رشدي). خلافات عديدة سادت النقاشات على نصوصه مثل تلك التي نشأت على تعليقاته على (بول بولز)، الذي يدين له بالاعتراف الدولي عندما ترجم كتابه الأول، (الخبز العاري)، فيما بعد أعاد تسمية إلى الخبز الحافي بناءً على اقتراح (خوان جويتيسولو).

كنتُ أترجمها في رأسي من العربية إلى الإسبانية وكنت أمليها عليه. كان (بول)، الذي كان يجيد الإسبانية جيد، أفضل مني، يكتبها بالإسبانية ثم يترجمها إلى الإنجليزية. مرحبًا، مورو وأمريكي في طنجة يتفاهمان بالإسبانية.

كان قد علق في مقابلة مع (خافيير فالينزويلا) [Javier Valenzuela] على صفحات الملحق الثقافي بابليا [Babelia]:

يعتبرونني كاتبًا إباحيًا في العالم العربي لأنني أتحدث عن الجنس. لكني أحاول إعطاء بعض القيم في كتبي.

ما هي القيم؟ يسأله (فالينزويلا)، يُجيب (شكري):

أنا ملتزم اجتماعيًا. أنا أميل إلى الدفاع عن الطبقات المهمشة و المنسية و المسحوقة. أنا لست سبارتاكوس، لكنني أؤمن أن كل الناس لديهم كرامة يجب احترامها. على الرغم من عدم حصولهم على فرص في الحياة.

الحياة المعقَّدة دفعته إلى دخول مستشفى الأمراض النفسية عدة مرات. في حديث مع (روخاس ماركوس)، أخبرتنا أن (شكري) كان يُسائل عن كل شيء.

للأسف لا يزال هذا صحيحًا أو حتى أسوأ، على الرغم من أنَّ ذلك يبدو صعب التصديق. ببساطة إنه لأمر مُدهش، أن يتغلب طوال حياته على لحظات من العنف المستوطن الرهيب، كما لو كان شيئًا مألوفًا.

لسوء الحظ، هذا ما جعله كاتبًا عالميًا أصبحت له قدرة على سرد القصص الوحشية بدون دراما. كما قال (خوان جويتيسولو) في مقدمة الإصدار الأول من الخبز العاري آنذاك، فإن ما يخبرنا به (شكري) ليس مغربيًا حصريًا، للأسف يحدث في أجزاء كثيرة من العالم. وهذا ما يجعله عالميًا، وللأسف أيضا لا يزال يحدث ذلك حتى يومنا هذا في عام ٢٠٢١م، إن هذا العنف أو هذا الجوع لا يزال حقيقة واقعة.

كما أظهره جزء كبير من الكتاب الأجانب.


بقايا الاستعمار:

 يُقال أن الكتاب الذين شاركوا تلك اللحظات قدموا ملاحظات لبعضهم البعض:

بدون شك، يحتاج بعضهم البعض لمواصلة العيش والكتابة. حسنًا ، ربما يكون (غويتيسولو) هو الشخص الذي يخرج من تلك السلسلة. لقد جاء إلى طنجة ليؤلف كتاب (مطالبة الكونت دون خوليان)، لقد كان بالفعل في مجال آخر، ولكن بلا شك، يمكنني القول بأن شغفه الأنثروبولوجي للمغرب الذي لم يغادر مرة أخرى أبدًا، جعله قريبًا جدًا من هؤلاء المؤلفين.

أتساءل ما إذا كان هناك بعض التقليل من أهمية إظهار طنجة كمجتمع منفتح ومتسامح ومتنوع وتعددي … على عكس الواقع المغربي الذي يبدو  أكثر تعقيدًا وتسلُّطًا وتجانُسًا؟

لا أعرف ما إذا كان هذا أمرًا تافهًا، أعتقد أنه مثالي إلى حد ما، وقراءة (شكري) تُظهر لنا الوجه الأكثر قسوة لتلك المدينة التي كانت بالفعل الأكثر انفتاحًا وتعددية في البلاد والتي لا تزال كذلك في بعض الجوانب. المدن التي بها موانئ هي دائمًا أماكن عبور وتبادل، لكن يجب إضافة خصوصية طنجة: الحقبة الدولية. من الواضح أنه لم يكن كل شيء نبيذا و ورودا، ولكن للأسف عانى الكثير من السكان حياة مماثلة لحياة (شكري). لكن على الرغم من ذلك، لا تزال طنجة نموذجًا استثنائيًا لمفهوم المدينة.

بالنسبة لـ(عثمان بنتريا):

(شكري) هو قصة جزء من طنجة ، إلى حد كبير هو حركة ˮالبيت“. بينما كان التركيز على المفاضلة بين الاستشراق والواقعية السحرية، كان (شكري) يروي وراء الكواليس، بأن التهميش ضروري لحلم الآخرين، وخيبة الأمل بعد الاستقلال التي بلغت ذروتها سنوات التسعينيات.

مضيفًا أنه:

من الغريب، على ما يبدو أنه بعد (شكري)، إذا لم تكن ملعونًا، فقيرًا، مدمنًا على الكحول، مضطربًا ، قاسيًا وخائب الأمل في حياتك، فأنت تكذب أو لا تستحق ذلك. في النهاية، نمط المسح الثقافي نفسه، يعيد بقايا الاستعمار.

  وقد كتب (شكري) معلقًا على علاقة حميمة:

العالم ينهار و نحن نتبادل الحب.

بفضل دار نشر [Cabaret Voltaire]، يمكننا الوصول إلى معظم أعمال المؤلف الذي كان بشكل دائم على الحافة، على حافة الهاوية. تقول (روخاس ماركوس)، التي ركزت في مقالتها بشكل فريد على حقيقة أن الأدب كان شغف هذا الريفي، فقد أنقذ حياته:

كان بحاجة إلى البقاء وهذا يعني العيش خارج كل الأعراف الأخلاقية.

لقد كافح ليكون كاتبًا وقارئًا نهمًا، على الرغم من أنه استغرق وقتًا لتعلم القراءة والكتابة، إلا أنه التهم، كما روى هو نفسه ، أكثر من أربعة آلاف كتاب. بلا شك رجل مجنون بالأدب.


بقلم: روبين كارافكا فرنانديث [RUBÉN CARAVACA FERNÁNDEZ]

ترجمة: عبداللطيف شهيد

تحرير: أحمد بادغيش


[المصدر]

زر الذهاب إلى الأعلى