الإنتاج الفني والسردي

محمود درويش .. شاعرٌ لعالمٍ منهار

(محمود درويش) شاعر القضية الأخطر في التاريخ العربي وهو مع ذلك شاعر حداثي، وهذه مفارقة لافتة في حياة شاعر خاص، جمع الحداثة في فتح نصوص مختلفة القراءات، دون الإمساك بالمعنى متلبساً بالعبارة.

أخذ الشعر في فلسطين منذ بداية التجارب الأولى يسكب مرارة الإنسان الفلسطيني وواقعه باتجاهات مختلفة الاتجاه؛ الرومانسي والوطني والكلاسيكي، وإلى غير ذلك من ظواهر تصيغ العلاقة بين الشاعر والوطن والأم والحبيبة، دون قيود وحدود. وهي الرؤى المتصورة للمستقبل والواقع الثوري والذي تلازم مع التغير من الانتقال عبر سلاسل الشعر قبل وبعد النكبة  إلى الثورة والدولة القائمة التي يزل تحطيها أسوار الاحتلال.

وفي حالة (محمود درويش) الشاعر الذي ولد شعره بعد المأساة الفلسطينية، أي النكبة، يترفع بقصائده من الشعر الثوري إلى البطولات وتدوين الأساطير والملاحم التاريخية، بأشكال تنوعت فيه مستويات الشكل والتعبير. وقد أخذ من فلسطين المرايا ليعبر من خلالها فضاءات العالم المتغير، وكأنه يتلذذ بتكرار فلسطين لايجاده دهشة المعاني وجمل بلاغتها، لعل ذلك ما كان يوصله بأرضه الأم التي طال قيدها، واشتد شوق انتظار أبنائها ومن أحبها. لشاعرنا في قولة رمزية لما سبق “اَه يا جرحي المكابر، وطني ليس حقيبة سفر، وأنا لست مُسافر إنني العاشق والأرض الحبيبة”، عاطفة تدلل على قوة المأساة لواقع يناجي التصور على بحر من لغة الشعر و النثر.

مرثية الأصدقاء والشعر بناء عالم منهار:

ظهر بنزعته الإنسانية فنان شاعر كاتب حالم يتعمق في التعبير ويتألف ويعيد التشكيل لإنسانية مفقودة في عالم منهار بركام أدخنته، يلتقطها الشعر والغناء والكتابة. يصف الدكتور (رجاء النقاش) البيئة الفلسطينية التي تنبت الليمون والبرتقال والزيتون كما تنبت الشعر والحكمة والجراح و الأحزان، من هذه البيئة نذهب إلى عاشق من فلسطين، لم يتوقف يومًا عند حدود المكان ليكتب، كبر بالقضية والمنفى والأصدقاء، عاش فهرس المكان المتعدد، ظل  يطارده  جرح تبديل الأسماء والأماكن والأزمنة التي احتلها الغرباء في أرضه.

امتد صراعه مع الكتابة من أجل أصباغ الحقيقة بالحقيقة، بعدما وقع الاعتراف بالقاتل وتبديل الحقائق والتاريخ. الكتابة بوصلة الحل والمقاومة كما يصفها، في نفس الوقت كان يعتبر نفسه مواطن عالمي لارتباط فلسطين عنده بعالمية الصراع؛ فلا استقرار لهذا العالم إلا بالاعتراف بالحق الفلسطيني وتحقيق مصيره. تلتقي الحالة الشعرية مع الخروج من الأرض بشاعر يمر من الوطن إلى رحيق البلاد خارجًا في  أوجه المنافي والميناء ومحطات السفر البعيدة، تخرج قصيدته من سياقاتها الإبداعية ليضعها على أكتاف الاصدقاء من مرايا العاشقين لنزيف الجرح بين ضماد الكلمة، ربما لم يكتب هذه المرة من جديد تاركًا جنين كتاباته تكبر مع من عرفه يومًا ورحل وآخر يناجي حضوره بكلمات لم تغيب.

الكلمة ماء و ماء الشاعر قصيدته التي لم تكتب بعد، أخذ من السفر و لأماكن محراب يتأمل الوطن والحب والحنين، ليفتح سلام رسائل الأصدقاء ويكتب شاعرنا الحبيب: 

سلام على من يشاطرني الانتباه إلى نشوة الضوء و ضوء الفراشة في ليل هذا النفق.  

ينتهي الاقتباس هنا، و لا ينتهي الحديث عن (محمود درويش)، لا يكف عن الرحيل والعودة للوطن فلسطين، كان لنمو دواوينه الشعرية الأولى بطاقات من التعريف؛ (عصافير بلا أجنحة) [١٩٦٠م]، (أوراق الزيتون) [١٩٦٤م]، وديوان (عاشق من فلسطين) [١٩٦٦م]، و(لماذا تركت الحصان وحيدًا) [١٩٩٥م]، جسّد فيها الرحيل عن البيوت والأرض لنزاع المحتل. 


الأصدقاء:

يقول (محمود درويش) في حواره مع (عباس بيضون) في مراثي الأصدقاء، رفاق الدرب:

أظن أني شاعر مراث، أنا شاعر محاصر بالموت، قصة شعبي كلها قصة صراع الحياة مع الموت، وعلى المستوى اليومي كل يوم عندنا شهداء، الموت عندي ليس استعارة، ولست أنا من أذهب إليه كموضوع بل هو يأتيني كحقيقة.

والقارئ المتيقن لشعر (درويش) يمكن ان يلاحظ في معجمه الشعري أن الألفاظ والبلاغة الرومانسية ترتبط بصلة وثيقة بتجربة (درويش) لما لها صلة بهموم الشاعر وجراحه التي نبعت من طبيعة التجربة، بالنظر إلى قصائده تتعدد الدلالات الشعرية الدالة على الأحلام والأشواق والحب والقمر و الثورة والطيور والقلق والموت والأساطير، وذلك باعتماد الشاعر على الصور الحسية التي وضعت تجربته موضع التنوع بين العاطفة وشعبه وقضيته والبعد الاَخر من وطنه.

يتحدث الدكتور (صلاح فضل) في كتابه (محمود درويش حالة شعرية): أثناء بعثتي للدكتوراة في مدريد تعرفت على المستعرب الإسباني (بدرو مارتينت مونتابيت) وقد كان مشغولاً بشعر المقاومة ومن بين تلك القصائد والشعراء المتحمس لهم (بدرو مارتينت) هو (محمود درويش)، فأخذت أراجع معه ترجمته إلى الإسبانية قصيدة “بطاقة هوية” لـ(درويش) فيقول الدكتور (فضل): “شعرت حينئذ بإنسان عربي يتمرد على قدر الهزيمة ويعلن انتصاره الروحي”، وأخذت أقرأ لرفاقي العرب والإسبان كلمات (درويش):

سجل / أنا  عربي / ورقم بطاقتي خمسون ألف / و أطفالي ثمانية / و تاسعهم سيأتي بعد صيف / فهل تغضب!

لقد تحول (درويش) في بدايته إلى رمز شعري و سياسي، ثم لم يلبث إلى أن تخطى الرمز ليصبح أسطورة حية، و يكمل الدكتور (فضل) حديثه، تابعت إنجازه الإبداعي بشغف و لهفة وعندما توفرت على رصد الملامح الأسلوبية التي تجسدت في الشعر العربي المعاصر فوجئت بظاهرة لافتة تميز شعر (درويش) تتمثل في قدرته الفذة على التحول من أسلوب إلى اّخر.

ما زال (درويش) يتجذر بعمق أكثر في الوجدان العربي بأكمله، فيكتسب يقين الخلود وهو يتراءى كالطيف الشفيف في أجواء العواصم التي طالما شهدت مواسمه و تجاربه الشعرية، لم  يزال (درويش) بعد رحيله الحاضر يتسرب كالضوء إلى صفحات الصحف العربية، يمتد بحضوره الباهر لجوف الغياب. و يضيف الدكتور (فضل) مع بداياته الأولى لقراءة قصائد (درويش):

لقد أصبح  لي مشهدًا نقديًا مثيرًا للتأمل، وكنت دائمًا أرى الاَف من مختلف الأعمار والثقافات يتزاحمون على المدرجات الواسعة لسماع شعر (درويش) مع أنهم لا يطيقون قراءة قصيدة حداثية واحدة.

فقد حقق (درويش) المعادلة المستحيلة بالجمع بين الشعر الحقيقي وسحر التلقي والإلقاء، كان (محمود درويش) يريد التخلص من جاذبية القضية الفلسطينية ليدخل في منطقة أرحب هي جاذبية الشعر الإنساني الخالد.

فكان (درويش) يقول كثيرًا لجمهوره الذي لم يخضع لابتزازه “ارحمونا من هذا الحب”!

و يستكمل الدكتور فضل قوله: (محمود درويش) شاعر القضية الأخطر في التاريخ العربي وهو مع ذلك شاعر حداثي، وهذه مفارقة لافتة في حياة شاعر خاص، جمع الحداثة في فتح نصوص مختلفة القراءات، دون الإمساك بالمعنى متلبساً بالعبارة. 

يذكر الدكتور (فضل) بعض من مذكرات (محمود درويش) في القاهرة، وجدت نفسي أسكن النصوص الأدبية التي كنت أعجب بها، فأنا أحد أبناء الثقافة المصرية، ألتقى (درويش) في فترة تواجده بالقاهرة بالكثير من الأدباء والشعراء والرموز الثقافية، فقد رافق (توفيق الحكيم) و(يوسف إدريس) و(نجيب محفوظ) , وكان صديق لمن تأثر بأشعارهم ومنهم: (صلاح عبد الصبور) و(أمل دنقل) و(أحمد عبد المعطي حجازي) و(عبد الرحمن الأبنودي). إلى أن غادر (درويش) مقر إقامته بالقاهرة ليقم سنوات عديدة بين باريس و بيروت، على أثر ذلك ارتبط (درويش) بمنظمة التحرير الفلسطينية من خلال رئاسته لمجلة شؤؤن فلسطينية التابعة للمنظمة.


طائرة سفر:

الدكتور (رجاء النقاش) في كتابه (محمود درويش؛ شاعر الأرض المحتلة) والنقاش من الاوائل الذين تشكل لديهم دلالات كثيرة لترصد أشعار وحالة (محمود درويش) الفريدة  كحالة للبحث والدراسة والتعرف على (درويش)، كان لقائي الأول مع أدب المقاومة في أرض فلسطين  المحتلة أواخر سنة ١٩٦٦م، حين كنت في زيارة للجزائر والمسافة طويلة تحملنا إلى أكثر من مكان، وفي الطائرة التي تحملنا وقعت يدي على جريدة جزائرية وفي ركن من أركان الجريدة وقعت عيني على قصيدة قصيرة بتوقيع (محمود درويش) بعنوان “الأمنيات” من ديوان (أوراق الزيتون)، قدمتها الجريدة على أنها قصيدة لشاعر من أرض فلسطين المحتلة.

أخذت أقرأ القصيدة فهزني صدق ما فيها من حرارة ثورية عنيفة، لا ولست اَعرف كيف ثبت في وجداني (محمود درويش)، هذا ليس اسمًا حقيقًا بل اسمًا مستعارًا لمناضل عربي ثوري يعيش متخفيًا في الأرض المحتلة، كما أن قصائده نوعًا من المنشور الثوري الذي يكتبه المناضل السري ليرفع الروح المعنوية للعرب المقيمين بفلسطين المحتلة. (درويش) ليس مجرد عبقرية فنية فردية هو أيضًا فنان مرتبط بحركة شعرية واسعة وتجربة نضالية عريضة، يتأثر برفاقه و ؤثر فيهم لأنه مرتبط بإيمانه العميق بفلسطين ارتباطًا أبدي المصير والفكر.


الشعر ومقتل القمر:

تقول الكاتبة (عبلة الرويني):

لا يحتاج (محمود درويش) إلى مناسبة لنذكره، هو الحاضر دائمًا حضور قصيدته وحضور تأثيرها في حركة الشعر العربي وفي الوجدان.

ولعل (درويش) أحد الشعراء القلائل الذين ساهموا في توسيع دوائر جمهور الشعر و قراءه، وأحد الشعراء الذين طوروا القصيدة محافظًا على الجماليات الفنية الخالصة.

فهناك شعراء أحالوا القضية إلى قصيدة، ولكن (محمود درويش) أحال القصيدة إلى قضية محافظًا دائمًا على مشروعه الجمالي وقضيته أولاً فرق بينهما.

وتُكمل الكاتبة (عبلة الرويني) حول لقاء (درويش) بالشاعر الكبير (أمل دنقل):

لم أعرف تحديداً الفترة التي ألتقى (درويش) بـ(أمل)، ولكن كانت في الفترة التي أقام فيها (درويش) بالقاهرة أوائل السبعينات.

ومن  اللقاءات التي جمعت بينهما خارج مصر  كان مهرجان الشقيف الشعري في دولة لبنان عام ١٩٨١م، عندما تلقى (أمل) دعوة لحضور المهرجان من منظمة التحرير الفلسطينية وفي الشقيف ألتقيا وسافر (أمل) و(درويش) مع مجموعة من الشعراء إلى مدينة صور بالجنوب اللبناني، وثم إلى دمشق ليوم واحد.

كان (محمود) و(أمل) رفقاء أمسية شعرية واحدة في ذلك الوقت.

وعن قصيدة “في حضرة الغائب” تقول الكاتبة (الرويني):

(محمود درويش) أهدى هذه القصيدة إلى (أمل) وكتبها خصيصًا ليقرأها في الاحتفال بالذكرى العشرين لرحيل (أمل دنقل) الذي تحت رعاية المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة.

يقول (أمل دنقل) عن شعر (محمود درويش) في إحدى الحوارات التي أجراها معه (أنس دنقل):  

بلا شك أن شعر المقاومة الفلسطينية شعر (محمود درويش)، كان أنضج فنيًا وفكريًا وأيديولوجيًا من شعر النكبة سنة ١٩٤٨م، وبالتالي أصبح ذو قيمة فنية ووطنية.

تذكر  (الرويني) في كتابها الجنوبي، بينما (أمل) يخضع للعلاج بتحدي جسده للمرض، وقفت في أحدى المرات أردد قصيدة (محمود درويش) على (أمل دنقل) داخل المستشفى: “يا حقل التجارب للصناعات الخفيفة والثقيلة يا لحم الفلسطيني ..”


شاعر يمر:

يذكر الروائي و الكاتب المغربي (عبداللطيف اللعبي)، أول من ترجم أعمال (درويش) الشعرية إلى اللغة الفرنسية، في مذكراته (شاعر يمر):

جائتي مكالمة من الصحفية (إليزابيت لوكرية) بإذاعة فرنسا الدولية، تخبرني بوفاة (محمود درويش) على إثر جراحة في القلب في أحد مشافي هيوسطن.

فيقول (اللعيبي) معلقًا على الخبر:

أحسست أن يد عدوة وجهت لي بغتة صفعة قوية أضيفت لي، إلى ان أخذت أشاهد حفل الوداع المهيب في رام الله لـ(محمود درويش)، ما تم شعبية نادرة الحدوث في التاريخ، فقد استطاع (درويش) بمهارة خاصة خوض أطول المعارك السياسية والاجتماعية في العالم العربي من خلال القصيدة وإعادة بناء ذاكرة الشعب الفلسطيني، في ظاهرة التجاذب بين الأضداد؛ البندقية وغصن الزيتون، الوردة، ورائحة القهوة وروائح اللحم المتفحم، الصفعة والمداعبة.

ويقول الروائي (اللعيبي) حول صفات (محمود درويش) التي عرفها من خلال بعض اللقاءات التي جمعتهم:

(محمود درويش) كان رفيقًا مرحًا، يسخر دون أن تشيء به ملاحظة، لم يكن يتردد في المشاركة في لعبة “قلب الدومى”، كان محبًا لمتع الحياة حيت يتعلق الأمر بالمأكولات والمشروبات الأرضية وإن بقي شديد التكتم بخصوص متع الجسد الأخرى.

لا يتكلم عن النساء إلا مجازًا كما في قصائده الشعرية، يحاصر في الجلسة بالأسئلة فينطلق لسانه بفصاحة لكنه كانت لديه اللباقة لكي يتوقف فجأة و يعطي  الأخرين إكمال الكلام.

ومن إنجازاته التي يتذكرها في قصائده عند ترجمة أعمال (محمود درويش)؛ الإنقلاب المضبوط الذي أحدثه داخل اللغة العربية، لغته تراعي اللياقة الأدبية وفي الوقت نفسه مبتكرة تقترن بحقائق العالم الحديث ومتطلباته. 

استطاع (درويش) نحت لغته الخاصة بصخر اللغة في التطابق المدهش بين لغة الكتابة و لغة الكلام عنده، مرثية أدبية أولى لمن عرف شاعر الأرض والبندقية والحداثة بعيون من تقاربوا مع حياة (درويش) الشخصية والأدبية لشاعر مرّ من الفكرة الأولى وتعدد في الأفكار والمواطن وليالي السفر.

شاعر سكنته الوحدة والقلق وهواجس الموت وأخذ من القصيدة العائلة والوطن، وعاد به شعره محمولاً إلى الأرض الفكرة الأولى ليلقي جسده هناك بين أشجار الزيتون وشوارع رام الله والعلم الفلسطيني ليردد ويهتف بجسده”

على هذه الأرض ما يستحق الحياة!

في النهاية؛ لا نهاية لشاعر يتكرر في تفاصيل  الحياة اليومية بين حياة العاشقين والثائرين والمضطهدين والحالمين و السعداء. كل الأجناس البشرية. يقول  شاعرنا:

عندما يسقط القمر كالمرايا المحطمة، يكبر الظلٌ بيننا، والأساطير تحتضر، جرحنا صار أوسمة، صار وردًا على قمر.


بقلم: محمود بركة
تحرير: أحمد بادغيش
زر الذهاب إلى الأعلى