فقه الحياة

فلسفة الحُب وقدسيته في فلسفة العقّاد

"وقد يخلو الحب من كل شيء إلا من شيء واحد، وهو الاهتمام!"

عباس محمود العقاد (1889-1964) أديب ومفكر وصحفي وشاعر مصري. ولد لأسرة محدودة الموارد واعتمد فقط على ذكائه الحاد وصبره على التعلم والمعرفة حتى أصبح صاحب ثقافة موسوعية لا تضاهى أبدًا، ليس بالعلوم العربية فقط وإنما العلوم الغربية أيضًا؛ حيث أتقن اللغة الإنجليزية من مخالطته للأجانب من السائحين المتوافدين لمحافظة أسوان مسقط رأسه. صار عضوًا في مجمع اللغة العربية. ولم يتوقف إنتاجه الأدبي رغم ما مر به من ظروف قاسية؛ كتب العديد من المقالات لمجلة فصول، كما كان يترجم لها بعض الموضوعات. يعد (العقاد) أحد أهم كتاب القرن العشرين في مصر. وقد ساهم بشكل كبير في الحياة الأدبية والسياسية. وأضاف للمكتبة العربية أكثر من مائة كتاب في مختلف المجالات.

في كتاب السيرة الذاتية (أنا) لـ(عبّاس محمود العقّاد)، كتب مقدّم الكتاب (طاهر الطناحي) عن فلسفة العقّاد في الحب، قائلاً: “أحَبْ العقّاد مرتين ، صُدِم في الأولى ففارقها كارهًا لها لخداعها وخيانتها ، وفارقته الثانية لأنانيتها وكرامتها. ومع ذلك فقد كان يمدح الحب ويقدّسه”.

وفي الفصل السادس ذكر العقّاد الحب وتعريفه في مقالةٍ بعنوان “فلسفتي في الحب” فيقول بادِئًا:

ما ليس بالحب أسهل في التعريف مما هو الحب، وهكذا الشأن في كل تعريف لمعنى من المعاني أو كائن من الكائنات. فنحن نستطيع في لمحة عين أن نعرف أن زيدًا ليس بعمرو ، ولكننا لا نستطيع في هذه السهولة أن نذكر تعريف عمرو و زيد ونحيط بأوصاف هذا أو ذاك، ولو كنّا أعرف العارفين بالإثنين.

وعلى هذا القياس نعرّف الحب من طريق النفي قبل تعريفه من طريق الإيجاب.

فليس الحب بالغريزة الجنسية؛ لأن الغريزة الجنسية تعم الذكور والإناث، ولا يكون الحب بغير تخصيص وتمييز.

وليس الحب بالشهوة؛ لأن الإنسان قد يشتهي ولا يُحب، وقد يُحِب وتقضي الشهوة على حبه.

وليس الحب بالصداقة؛ لأن الصداقة أقوى ما تكون بين اثنين من جنس واحد، والحب أقوى ما يكون بين اثنين من جنسين مختلفين.

وليس بالانتقاء والإختيار؛ لأن الإنسان قد يُحِب قبل أن يشعر بأنه أحب، وقبل أن يلتفت إلى الانتقاء والإختيار.

وليس الحب بالرحمة؛ لأن المُحِب قد يعذِّب حبيبه عامدًا أو غير عامد، وقد يقبل منه العذاب مع الاقتراب، ولا يقبل منه الرحمة مع الفراق.

الحب كذلك يعرَّف جزءًا جزءًا قبل أن يُعرَّف كاملًا  شاملًا  مستجمعًا لكل ما ينطوي عليه.

ويكمل:

ففي الحب شيء من العادة؛ لأن المُحب يهون عليه ترك حبيبه إذا كان تركه لا يغيّر عاداته ومألوفاته، وأقوى ما يكون الحب إذا طال امتزاجه بالعادات والمألوفات.

وعن الخداع، يقول:

في الحب شيء من الخداع، لأن المرأة الواحدة قد تكون أفضل المخلوقات في عين هذا الرجل، وتكون شيئًا مهملًا  لا يستحق الإلتفات في عين ذاك، ثم تعود كالشيء المُهمَل في عين الرجل الذي فضّلها من قبل على جميع المخلوقات.

وفي الحب شيء من الأنانية ولو أقدم صاحبه على التضحية؛ لأنه لا يترك محبوبه لغيره ولو كان في ذلك إسعاده ورضاه، ولكنّه قد يُضحِّي بنفسه إذا اعتقد أن محبوبه لا يصير إلى سواه.

وعن الغرور، أيضاً يقول:

وفي الحب شيءٌ من الغرور، ولولا ذلك لما اعتقد الإنسان أن إنسانًا آخر يهمل الألوف من أمثاله ليخصّه وحده بتفضيله وإيثاره.

ويكمل:

وقد يخلو الحب من كل شيء إلا من شيء واحد، وهو الاهتمام!

فصدِّق إن قيل لك إن حبيبًا يُبغِض حبيبه ويؤذيه …. وصدِّق إن قيل لك إن الحب والازدراء يجتمعان، وصدِّق إن قيل لك إن الحب يخون أو يقبل الخيانة من المحبوب، فأما إن قيل لك إن حبًا يبقى في النفس بغير اهتمام، فذلك هو المُحال الذي لا يقبل التصديق!

وخلاصة القول:

أن الحب عواطف كثيرة وليس بعاطفة واحدة، ومن هنا كان أقوى وأعنف من العواطف التي تواجه النفس على انفراد ..

ففيه من حنان الأبوة، ومن مودة الصديق، ومن يقظة الساهر، ومن ضلال الحالِم، ومن الصدق والوهم، ومن الأثرة والإيثار، ومن المشيئة والاضطرار، ومن الغرور والهوان، ومن الرجاء والقنوط ومن اللذّة والعذاب، ومن البراءة والإثم، ومن الفرد الواحد والزوجين المتقابلين، والمجتمع المتعدّد، والنوع الإنساني الخالد على مدى الأجيال.

وفي استفهام، يقول:

يسألونك عن الحب ؟

قل هو اندفاع جسد إلى جسد، واندفاع روح إلى روح.

ويسألونك عن الروح فماذا تقول؟

قُل هي من أمر ربي .. خالق الأرواح!

لهذه الكثرة الزاخرة في عناصر الحب، تكثر العجائب في العلاقات بين المحبين.

فيجمع الحب بين اثنين لا يخطر على البال أنهما يجتمعان .. ويتكرر الحب في حياة الإنسان الواحد حتى ليكون المحبوب اليوم على نقيض المحبوب بالأمس في معظم المزايا ومعظم الصفات.

ثم في خاتمة المطاف يطرح تساؤلاُ:

هل الحب إذن أمنية نشتهيها؟ .. أو هو مصيبة نتقيها؟

و لي أن أقول إنه مصيبة حين تحمل به نفسًا ثانية مع نفسك، وأنت تريدها ولا تريدك، وإنّه أُمنية حين تتعاون النفسان ولا تتخاذلان.

وليس بالمصيبة، ولا يكفي فيه أن يُوصَف بالأمنية حين لا عبء ولا تخفيف، بل تنطلق النفسان محمولتين معًا على كاهل “النوع” كله أو على أجنحة الخلود التي تسبح في أنوار عليين .. وما من محبين إلا اتفقت لهما هذه الرحلة السماوية في سهوة من سهوات الأيام ..


بقلم: ريم رحب
مراجعة: حبيبة خالد
تحرير: أحمد بادغيش
زر الذهاب إلى الأعلى