الإنتاج الفني والسردي

فيكتور هوغو .. بين بؤس الألم ونور الأمل

"حتى أحلك الليالي ستصل إلى نهايتها، وستشرق الشمس"

انتهيتُ مؤشرًا من قراءة (البؤساء) للروائي (فيكتور هوغو) .. نعم وصلتُ لآخر الطريق بعد رحلةٍ طويلة مع الأديب الفرنسي، رحلةٌ في ملحمةٍ أدبية إنسانية؛ رحلةٌ لا يُمل من محطاتها ولا يُضجر من عقباتها ولا يُيأس من عثراتها. رحلةٌ فيها ألمُ البائسين ومعاناة اليائسين وأنين المستضعفين وجريرة المتفرجين!

قال (فيكتور هوغو):

تخلق العادات والقوانين في فرنسا ظرفًا اجتماعيًا هو نوع من جحيم بشري.

وقد أراد الأديب الفرنسي أن يأخذ بأيدينا معه إلى هذا الجحيم البشري الذي يمتزج صوبُه انفعال الكاتب والقارئ في آنٍ واحد؛ حيث يصور لنا العديد من الأحداث المؤلمة والمواقف القاسية التي تجرّع مرارتها إمّا (جان فالجان) أو (فانتين) وابنتها (كوليت)، أو (ماريوس) أو غيرهم من الشخصيات التي لن ينساها من قرأ هذه الملحمة الأدبية.

ولكن بالرغم من البؤس الذي أراد تصويره إلا أن قارئ هذه الرواية لا يستطيع أن يمنع نفسه من أن يختلجها لذّة عميقة، وهو هذه الرحلة حيث لا يمكنه التوقف عن إكمال قرائتها حتى النهاية، وذلك بطبيعة الحال ليس بسبب القدرة التصويرية والحبكة التشويقية للكاتب فحسب! بل يعود ذلك إلى الأمل.

الأمل الذي كان لهُ وجود في كثير من الأحداث القاسية والظلمات المتراكمة. وما كان ذلك الأمل إلا نور سكبهُ الكاتب مناداةً للإنسان .. حيثُ كان موجودًا، فوراء كل حدث ينتقي كلماته بدقة في مناداته للإنسان بالسّمو في كل شيء، وفي مختلف جوانب الحياة. فلم تكن هذه الرواية ترويجًا لنظام سياسيّ يُناَدي به أو تيار فكري يحبّذه الكاتب؛ بل كانت نداءً منه إلى العقل والصدق مع النفس ومع الله، ونداءً للالتزام بالمبادئ حين تواجه أصعب التحديات، وصيحة بصو ٍت جهوري يقدّس الحب وإن كان تحت أصعب الظروف، ودعوة للحرية والكرامة والتسامح وغيرها من هذه المثُل العليا الحقيقة بالاحترام والخليقة بالإجلال .

فتارةً كنا نسيرُ مع الكاتب لنشهد واقعة أسقف مدينة ديني مع عابر السبيل، ونرى بعد ذلك ِعظَم الأثر الذي قد يولّده التسامح، وتارةً أخرى نمضي لنرى رجل القانون الذي يسعى للعدل لكنه يفشل في ذلك بسبب تهميشه لعقله، أو ابنة ذلك الجَشع التي كانت هي أيضًا من ضحايا والدها، وبالرغم من الانحراف، الذي كان والدها سببًا فيه، إلا أن جوهرها كان مشعًا وصميمها كان سويًّا .. ولا ننسى عندما وقفت بشجاعة نابعة من اليأس والبؤس في وجه أعتى وأفتك مجرمي المدينة؛ وقد كانت من أجمل الشخصيات، فبالرغم من دورها الثانوي إلا أنها جسدت الكثير، وكذلك كان أخوها الشقي.

ونمضي كذلك لنتأمل واقع مجموعة من الّشباب يعيشون بين الواقع والمأمول في ظل نظام سياسي لم يعد يتماشى مع تطلعاتهم، فيجعلون من حتوفهم جسرًا إلى الحرية، ونمضي لنرى ذلك الشاب الذي صوّر لنا الكاتب من خلاله القلق الذي يصيب من يجدد ويغيّر من عقائده السياسية وتوجهاته الفكرية، ومن ثمّ صوّر لنا من خلاله أيضًا ذلك العشق الذي خلب لبُّه حتى أضحى غير عابئ بشيء في الواقع السياسي أو الاجتماعي، ولا ننسى بالطبع ذلك السجين السابق الذي عاش معظم عمره وحيدًا شقيًّا لم يذق طعم الألفة والمودّة والمحبّة، حتى تعرّف في كبره تعرف على أصدق شعور وأعظم سرور، وهو محبة الأب لابنته وإسعادها وتعليمها وتربيتها والاهتمام بها.

كانت روح الكاتب حاضرة في كل هذه الأحداث، كان قلبُه يخفق في كل مشهد كاشفًا عن أمله في الخير الموجود في الإنسان، فحين كان يحث على الإيمان والخير كان كذلك يدعو للعقل، وحين كان يتغنّى بجمال الحب واشتعال الأرواح به كان كذلك يدعو للعفّة والصدق وكبح جوامح الجسد لكي يكون حبًّا خالدًا لاتدنّسُه الشهوات العابرة، وحين كان ينتقد نظامًا سياسيًا كان كذلك يذكر محاسنه؛ فقد كان منصفًا محايدًا يحاول رؤية ا لأمور بعينٍ صادقة لكي يكون ما يسعى إليه فكرة متشربة لمحاسن الماضي وزاجرة لمثالبه، وحين كان ينتقد النظام الاجتماعي ويذكر ما له من المساوئ كان كذلك يحمّل المخطئ مسؤولية خطئه ولو كان من ضحايا النظام.

فالصدق والخير وغيرها من المُثُل جديرة بالاتباع من الجميع .. من الصغير والكبير والغني والفقير. ذلك أن المجتمع لا يكوّنه النظام فقط، بل يكونه كذلك وعي البشر الذين يعيشون فيه، وفي ذكره للعالم السفلي من المجتمع -عالم الجريمة- وما يصبو إليه من تدمير للحضارة كان ينادي بالعلم .. العلم الذي كان يراه ضياءً ينير المجتمع، وينير ما يرزح تحت أنفاقه من العالم السفلي حيث كان هو الحل، ولا حل غيره.

قد تأوّهت بعض من الشخصيات في هذه الرواية لمختلف الأمور؛ فأحدهم تأوه من القلِق والبؤس الذي يلاحُقه، وآخر بسبب الإملاق واليأس الذي أصابه، وغيرهم بسبب عشق هزّ أركانهم، وها أنا ذا أتأوَّه كذلك من هذا الأديب رفيع الشأن الذي أثقلني في هذه الليلة بمشاعر جياشة حين اختتم هذه الملحمة الأدبيّة ؛ فنهايتُها – فيما أرى – تُفجر العواطف في الإنسان ولو كان قلبه كالحجر الصلد، ولا نقول إلا هنيئاً لنا بهذه الرائعة التي استحقت كل ما لقيَت من تقدير على مر السنين في الأوساط الأدبية والفكرية .


بقلم: خالد حمدان
تحرير ومراجعة: أحمد بادغيش
زر الذهاب إلى الأعلى