آليات الكتابة، ونصائح في التعبير

مهنة الكتابة بين الإلهام والصنعة

النجاح في الكتابة، سواءً كانت خيالية أو غير خيالية، يعتمد على عاملين أساسيين؛ الموهبة والعمل الدؤوب المنظم.

ويليام زينسر [١٩٢٢- ٢٠١٥] كاتب وناقد وأستاذ جامعي أميركي، مؤلف ١٩ كتابًا في موضوعات شتى؛ الموسيقى، الرياضة، الرحلات، والعديد من الكتب المقروءة على نطاق واسع حول فن الكتابة. وفي مقدمتها كتابه الشهير (كيف تكتب جيداً؟) الذي صدر في طبعات متلاحقة بلغت ثلاثين طبعة باللغة الإنجليزية في الولايات المتحدة وحدها، وبلغ إجمالي عدد النسخ المباعة منها أكثر من مليون ونصف المليون نسخة،  ناهيك عن ترجمتها إلى العديد من اللغات الأجنبية.

ذات مرة دُعي (ويليام زينسر) من قبل إحدى المدارس الثانوية في ولاية كونيتيكت لمناسبة (يوم الفن) للحديث عن الكتابة كمهنة. وعندما حضر الى المدرسة اكتشف وجود كاتب آخر، وُجهت إليه الدعوة للحديث عن الكتابة كهواية مسلية. كان هذا الأخير طبيبًا جراحًا [أطلق عليه (زينسر) اسم (الدكتور بروك)]، والذي بدأ بالكتابة منذ فترة قصيرة، ونشر عدة قصص قصيرة في المجلات الأميركية. جلس الضيفان على المنصة جنبا إلى جنب، أمام قاعة غصت بالتلاميذ وأولياء الأمور والمدرسين.

كان الطبيب الجراح يرتدي سترة حمراء صارخة، ما أضفى عليه بعض المظاهر البوهيمية، التي يُفترض أن يتسم بها الكاتب. ولهذا فإن السؤال الأول كان موجهًا إليه: ماذا يعني أن تكون كاتبًا؟

أجاب الجراح:

إن الكتابة متعة لا تضاهى. عندما أعود الى البيت مرهقًا، بعد يوم مُتْعِب في المستشفى سرعان ما أجلس إلى طاولة الكتابة. وما أن أشرع بالكتابة حتى يزول كل التعب المتراكم. وتنسكب الكلمات على الورق بسهولة ويسر. إنه أمر سهل للغاية!

أما (زينسر) فقد أجاب عن السؤال ذاته قائلاً:

إن التأليف عمل شاق، وليس ممتعًا دائمًا. عملٌ ينجزه الكاتب وحيدًا، والكلمات نادرًا ما تنساب على الورق مثل السيل المتدفق.


ثم سُئل الدكتور: هل تنقح وتضبط ما كتبته؟

فكان جوابه:

هذا ليس ضروريًا على الإطلاق. إن العبارات في شكلها الأصلي تعبر على نحو طبيعي عن أفكار الكاتب.

أما (زينسر) فقد علق قائلاً:

إن تنقيح المسودة هو العمل الرئيسي للكاتب، فالكتّاب المحترفون يعيدون الصياغة مرارًا وتكرارًا، حتى الوصول إلى صيغة مُرضية.


ثم سألوا الدكتور (بروك): ماذا تفعل عندما لا يسير العمل بشكل جيد؟

فأجاب ببساطة:

بكل بساطة أتوقف عن الكتابة، وأضع ما كتبته جانبًا لبضعة أيام أو أكثر، حتى تسير الأمور على ما يرام.

أما (زينسر) فقد أجاب عن السؤال ذاته قائلاً:

إن على الكاتب المحترف أن يضع جدول عملٍ لنفسه، وأن يلتزم به بكل دقة، يومًا بعد يوم. الكتابة فن وحرفة، وإن الشخص الذي يهرب من حرفته بسبب نقص أو غياب الإلهام، يخدع نفسه، ولن يكون قادرًا على كسب قوت يومه من كتاباته.


وسأل أحد التلاميذ: ماذا لو كنت منزعجًا أو مكتئبًا، هل سيؤثر ذلك على نتيجة عملك؟

قال الدكتور (بروك):

ربما نعم. أذهب لصيد السمك، أو للنزهة!

قال (زينسر) ردًا على نفس السؤال:

ربما لا. إذا كانت وظيفتك هي الكتابة كل يوم، فيجب أن تعتاد على القيام بها مثل أي وظيفة أخرى.


وسأل تلميذ آخر: هل الاختلاط بالأوساط الأدبية مفيد للكاتب؟

رد الدكتور (بروك)، بأنه مسرور بصورته الجديدة كشخص مبدع. وذكر عدة قصص عن لقاءاته بناشره ووكيله الأدبي، وقضائهم وقتا طيبًا في مطاعم مانهاتن الراقية، حيث يجتمع الكتاب والمحررون.

 وقال (زينسر):

الكتاب المحترفون يعملون بجد وهم وحيدون، ونادرًا ما يرون كتّابًا آخرين.


سُئل (زينسر): هل تستخدم الرمزية عندما تكتب؟

أجاب قائلًا:

أحاول أن لا أفعل ذلك. طوال حياتي لم أتمكن مطلقًا من فهم المعنى الخفي لعمل فني واحد على الأقل، سواء كانت قصة أو مسرحية أو فيلمًا، وعندما أشاهد الرقص أو التمثيل الإيمائي، فأنا لا أدرك حتى ما يحاولون الإيحاء به.

وصاح الدكتور (بروك):

أنا احب الرموز جدًا.

 ووصف بحماس كيف أنه يجد متعة بالغة في استخدام الرموز في كتاباته.


قد تبدو إجابات الكاتبين متناقضة من الوهلة الاولى. ولكنني أرى أن إجابتهما تكمل إحداهما الاخرى، وترسم صورة شاملة لمهنة الكتابة.

(زينسر) يتحدث عن تجربته ككاتب غير خيالي [نون فيكشن]، وهذا النوع من الكتابة يعتمد على سعة اطلاع الكاتب وثقافته، وانتقاء المعلومات ومعالجتها في المقام الأول، ويختلف إلى حد كبير عن الكتابة الإبداعية، كالرواية والقصة القصيرة. الدكتور (بروك) تحدث عن تجربته في كتابة القصص، التي يلعب الخيال فيها الدور الأهم. ولهذا فإن كلاهما على حق.

يعتقد البعض أن الكتابة عمل سهل يمكن أن يمارسه أيّ مثقف، ولكن عندما يوغل في تجربة الكتابة ويزداد وعيًا بها، فإنه يتأنى ويتباطأ في سكب كلماته على الورق بشكل تلقائي، بعد أن يكتشف أن الكتابة الجادة ليس بالأمر الهين، بل عمل شاق يزداد صعوبة ومشقة كلما ازدادت خبرة الكاتب ومعرفته بأسراره مع مضي الزمن. وأن الكتابة المزاجية السهلة، غير الجادة، تكون سطحية في معظم الأحيان ولا قيمة حقيقية لها، لذا يجهد نفسه لكي ينتج نصّا جيدًا وناضجًا. ويدرك أن العمل الإبداعي كدحٌ ومعاناة وعملية بناء تحدث على مهل ينجزها الكاتب وحيدًا في خلوته.

النجاح في الكتابة -سواءً كانت خيالية أو غير خيالية- يعتمد على عاملين اساسيين؛ الموهبة، والعمل الدؤوب المنظم. الكاتب الجاد لا يكون راضيًا عن عمله أبدًا. ويعتقد أن عمله غير مكتمل وغير جيد بما فيه الكفاية، ويحلم بمستوى أعلى مما يستطيع، وهو لا يحاول أن يكون أفضل من أسلافه أو معاصريه، بل أفضل مما هو عليه الآن. ويتعلم الكتابة على نحو أفضل يومًا بعد يوم. ويتعلم من أخطائه أيضًا. هذه هي الطريقة الوحيدة لتعلم الكتابة الجيدة.


إلهام وصَنعة:

يقول الكاتب الفرنسي (ستندال) [١٧٨٣-١٨٤٢]:

لم أبدأ الكتابة الا في عام ١٨٠٦، حين أحسست في نفسي العبقرية. لو كنت قد أفضيت إلى إنسان راجح العقل بخططي الأدبية ونصحني: “اكتب يوميًا لمدة ساعتين، سواءً كنت عبقريًا أم لا”، عندئذ لم أكن قد أهدرت عشر سنوات من حياتي في انتظار الإلهام.

مقولة (ستندال) صحيحة إلى حد كبير ولكن لا بد من هاجس يحرك العملية الإبداعية كلها من بدايتها. إن بذرة الكتابة أو النص وشحنته الأولى، قد تأتي المبدع في أي وقت، وفي أي مكان، وليس في موعدٍ محدَّد، أوفي طقوس معينة، ثم بعد ذلك يأتي دور الصنعة في تعديل النص وتهذيبه وتشذيبه وصولا إلى صيغته النهائية.

وبصرف النظر عن الاسم الذي نطلقة على “الهاجس” أو “الدافع” الذي يقف خلف إحساس الكاتب الداخلي، أعتقد أن من الصعب أن  يبدأ الكاتب بالعمل إذا لم تكن “فكرة ما” قد نضجت في ذهنه، واستولت على تفكيره ويتلهف للتعبير عنها وتجسيدها.

يقول (فكتور هيجو):

إن الإلهام هو بمثابة الطائر الذي يخرج من البيضة، فلو لم يتم احتضان البيضة، والرقاد عليها، لما أفرخت وخرج منها الطائر.

والحق ان لكل كاتب طريقته في العمل، منهم من لا يبدأ العمل الا وقد استحضر في ذهنه فكرة ما، وآخر يجلس إلى منضدة الكتابة وهو خالي الذهن من أي أفكار مسبقة. ولكن تجارب كبار الكتاب تثبت أن ٩٠٪ من الكتابة الإبداعية صنعة يتم إتقانها بالمران والممارسة الطويلة، والشخص الذي يهرب من عمله لعدم وجود “الإلهام” يخدع نفسه بنفسه.

وقد عُرف الكاتب الإيطالي (ألبرتو مورافيا) [١٩٠٧-١٩٩٠] بانضباطه الصارم. ويقول في هذا الصدد:

منذ فترة طويلة جدًا، وأنا أكتب كل صباح بالطريقة نفسها التي أنام فيها وآكل يوميا. لقد أصبحت الكتابة جزءًا عضويًا في إيقاعي البيولوجي.

وقال الروائي التركي (أورهان باموق) في محاضرة نوبل ٢٠٠٦:

إنّ سرّ مهنة الكاتب في نظري لا يكمن في إلهام مجهول المصدر، بل في المثابرة والصبر. ويبدو لي أنّ التعبير التركي الجميل “يحفر بئرًا بإبرة” قد اخترع من أجلنا، نحن معشر الكتاب.


بقلم: د. جودت هوشيار

مراجعة وتدقيق: أحمد بادغيش

زر الذهاب إلى الأعلى