مواضيع عامة، ونصوص مهمة

تأملات حول صاحب القبو

مراجعة لكتاب (في قبوي) لأيقونة الأدب الروسي ثيودور دوستويفسكي

عقب الانتهاء من قراءة (في قبوي) للروائي الروسي (فيودور دوستويفسكي)؛ أحاول في هذه المقالة أن أنظر في ثنايا هذه التحفة الأدبية العميقة وما تحمل في طيَاتها من أفكار مثيرة ورمزيات متعددة، وما تجسده من عقل واع ونفس بائسة وأطباع متناقضة. وسيكون ذلك من خلال قراءة الشخصية وأبعادها وتفاعلاتها مع الحوادث من حولها في كلا الفصلين من هذه الرواية، ومن ثم سأحاول التركيز على الفصل الثاني تحديدًا والوقوف عند بعض المشاهد لقراءتها بشكل تفصيلي. 

لقد كانت الأفكار والمفارقات الكثيرة التي طرحها كاتب هذه المذكرات في هذا العمل استثنائية؛ فهو لم يجسد تيارًا تشاؤميًا عدميًا عَلت أصدائه في تلك الحقبة فقط .. بل جسَد كذلك إنسانًا قد بلغ ما بلغ من آثار هذه الأفكار على حياته الشخصية وتفاعلاته الاجتماعية وما قادته إليه من أفعال غريبة وتصرفات مريبة.

 وقد كان هذا الرجل – أي صاحب القبو – يمتلك معرفة عالية ويتميز باطلاع ثقافي واسع وقد أكد ذلك عند تذكره لغيرة أقرانه منه في أيام الدراسة، وقد كان جليَا أن الكاتب – أي (دوستويفسكي) – قد أراد إظهار هذه الخصال في شخصية صاحب القبو ووضوح ذلك للقارئ. 

وأرى السبب الدافع وراء رسم هذه الخلفية المعرفية والثقافية لشخصية صاحب القبو هو أن ما جرت عليه العادة عند رموز هذا التيار أنهم في حقيقة الأمر رموز في المعرفة بشكل عام، إضافة أنه إذا أراد الكاتب تجسيد هذا الرفض الغاضب والناقم اتجاه النظريات الأخلاقية .. المطلقة منها والنفعيَة والهزء بمنطقها وازدراء حجتها وما تلاها من رفض حتى لقوانين الطبيعة وما عقب ذلك من محاولة لتبرير هذا الرفض وعقلنة لمعتقداته وتوجهاته فإنه من الطبيعي أن لا يتم ذلك إلا بثقافة واسعة خصوصًا إن أراد الوصول إلى مرحلة هائلة من التطرف في توجهات الشخصية كما فعل الكاتب. 

لقد كانت هذه الشخصية – المجهولة الاسم والرسم – نتاجًا لمزيج مظلم من دسائس نفس قاتمة وظلمات مجتمع مسموم، فبالرغم من المواقف السيئة التي تعرض لها صاحب القبو والازدراء المتكرر الذي يلاقيه من أفراد لا يحترمون من البشر الا من يعلوهم في المراتب المهنية او الوجاهة الاجتماعية .. إلا انه هو كذلك كان له سابقة في التجبر على من يقترب منه واحتقار من يحترمه ويجله . وأجد هذا إظهارًا لواقع يكشف عنه (دوستويفسكي) بتصوير عميق حول الإنسان عامة والمثقفين وأصحاب المعرفة خصوصا والمفارقة الصارخة بين ما قد ينادون به ويوجهون إليه وبين أفعالهم الحقيقية.  

الفصل الثاني:

الفصل الثاني من هذه الرواية هو عبارة عن ذكريات لهذه الشخصية وهي متمَة لما هو في الفصل الأول من الأفكار المجردة للشخصية، فهذه الذكريات ترينا هذا الرجل على أرض الواقع بشكل أكبر ونرى فيها تفاعلاته مع من واجه من الشخصيات؛ متبوعة بتعليقاته التي توضح لنا تصوراته خلال هذه الأحداث.

إن شعر القارئ في الفصل الأول بأن صاحب القبو يتَسم بتطرف هائل في رؤيته للوجود واحتقاره الشديد لذاته وغضبه على نفسه وعلى المجتمع بل وعلى كل شيء؛ فإن الفصل الثاني جاء موضحًا لأسباب ذلك كله. 

بدأ الفصل الثاني بذكر قصة الضابط الذي ذكر على عجل في الفصل الأول وهنا نرى صاحب القبو بشكل حقيقي على أرض الواقع، فنرى ذلك الضابط يحتقر رجلا متعبًا من كثرة تفكيره في كل شيء .. فلا يتجاوز الإهانة ولا يتساهل مع الزراية التي يجدها وإن حاول المضي عن هذه الأمور فهي باقية معه، فتبدأ حالة من الهوس الشديد بهذا الضابط ومحاولات شتى لإثبات الوجود ورفض الإهانة بشكل يائس، إن هذه القصة تعطي تصورا أعمق عن مدى قوة الألم الذي يعانيه هذا الرجل وإلى أي مدى يمكن أن يسقط بسببه وإلى أي درك من دركات جحيم النفس يمكن أن يجره إليه. 

انتقل بنا بعد ذلك إلى قصته مع من زاملهم في دراسته قديما في صباه ..حين كان في قبوه واشتدت عليه الهموم وتثاقلت عليه دخائله وجد نفسه يمشي بلا إدراك أو وعي هاربًا من ذاته إلى منزل أحد الزملاء القدامى الذين لا يحبونه ولا يحبهم؛ وأجد أن هذا المشهد يصور لنا شيئًا مهمّا وهو طبيعة الإنسان الجوهرية في الاجتماع مع من حوله؛ فقد نسي أو تناسى الضغائن القديمة وتجاهل الأحقاد المتبادلة مع هؤلاء الأشخاص ملقيا بكبريائه عرض الحائط. وتتابعت الأحداث معهم وسط أجواء مشحونة تملؤها السآمة والغرابة. إلا أن هذه الأحداث كانت جسرًا يوصلنا إلى اخر المطاف في هذه الذكريات وهي قصة هذا الرجل مع (ليزا) وهي بائعة هوى يبدأ في محادثتها ونصحها ووعظها وتذكيرها بحالها وما سيحصل لها إن استمرت في هذا الطريق مسترسلا بذلك في خطبة طويلة بليغة مؤثرة.

إلا أن المثير للإهتمام في قصته مع هذه المرأة هو ما حصل حين زارته في منزله ووجد نفسه في حالة انهيار عصبي يصرخ عليها أول الأمر ومن ثم يبكي اخر الأمر ونجدها متواجدة معه مواسية له؛ كانت هذه إشارة أخرى من الكاتب إلى أنه بالرغم من تجبر هذا الشخص ومكابرته المستمرة إلا أنه كما قادته أقدامه بلا وعي إلى منزل زملائه القدامى فكذلك خارت قواه وذرفت دموعه وارتمى جسده باحثا عن روح يسكن إليها .. إن جوهره الإنساني كان يحكمه في أصعب أوقاته. 

نهاية غير مغلقة .. 

كانت خاتمة هذه الرواية غير المغلقة قمة في الجمال وتجلي لنا عبقرية الكاتب؛ إن هذه المذكرات لهذه الشخصية كانت منذ بدايتها بلا خطوط زمنية واضحة ولا نجد فيها أي ترتيب يذكر، وكما بدأت بشكل صادم مفاجئ فقد انتهت على نفس الشكل والطريقة وبالرغم من استرسال الشخصية في الكلام إلا أننا حين وصلنا إلى الخاتمة شعرنا بالترابط الرائع بين بداية العمل ونهايته .. وكانت كذلك إضافة كبيرة للشخصية بحيث يشعر القارئ أن هذا الرجل لا يزال إلى يومنا هذا في قبوه ممسكا بقلمه. 


بقلم: خالد آل مسلم

مراجعة وتحرير: أحمد بادغيش

زر الذهاب إلى الأعلى