الإنتاج الفني والسردي

يفغيني فودولازكين يكشف عن جحيم السلطة البلشفية

مراجعة لرواية (الطيار) للكاتب يفغيني فودولازكين

من الجيد أن تقرأ نصًا أدبيًا ويختفي فيه صوت الكاتب وتعلو فيه أصوات أبطاله بقوة، وحركتهم أشبه ما تكون بخلية نحل، وتلعب غريزة البقاء والمشاعر والانفعالات الإنسانية دورًا كبيرًا في حركة كل مشهد في هذه الرواية، أما حبكة الرواية لا تتكرر كما في أعماله السابقة، كل شيء يوحي بغريزة التحرر من الأشياء التي جثمت على صدور الأبطال إلا الحنين إلى الماضي ظل يسيطر على تفكير البطل حتى نهاية الرواية. 

تدور أحداث الرواية في بداية سيطرة البلاشفة على الحكم وبعد تفكك الإتحاد السوفيتي ومن ثم ظهور (بوريس يلتسن) على هرم السلطة. يلخص أحد ابطال الرواية هذه الفترة، قائلاً:

استُبدلت الدكتاتورية بالفوضى. إنهم يسرقون أكثر من أي وقت مضى. في السلطة، رجل مدمن على الكحول. هذا – إجمالاً.

أما فكرة تجميد البطل جاءت عن طريق السلطات السوفيتية بعد وفاة (لينين):

فقد أثارت حقيقة أنًّ رئيس الدولة بعد الوفاة يخضع لنفس التغييرات التي يخضع لها المواطن العادي. وبدا لهم أن المخرج من هذا الوضع يكمن في الحفاظ على الأجسام في حالة التجمّيد حتى الوقت الذي يكون فيه العلم قادرًا على إطالة الحياة البيولوجية.

فبعد انهيار الإتحاد السوفيتي يتم تذويب البطل، ويواجه البطل مشكلة اعادة تأهيل الذاكرة وانعاشها وفي ذات الوقت مشكلة دمج البطل في الحياة المعاصرة، لذلك البطل في هذه الفترة يعيش في حالة من التشتت الذهني بين زمنين مختلفين كل شيء فيهما مختلف حتى الأصوات مختلفة على حد تعبير البطل (بلاتونوف). يمر البطل بمراحل ونوبات صعبة ممكن ان نلخصها كالتالي: أولاً، البطل يحاول جاهدًا معرفة كيف نجا من معسكر الاعتقال الذي كان جحيما بالنسبة له في زمن الإتحاد السوفيتي، وبعدها يتذكر موجة من الذكريات العاصفة التي يتخللها سنوات الاعتقال، وكيف عانى ما عانى في تلك السنوات، وكان كل يوم يرى الموت في عينه من جراء العذاب الذي يناله، فيقول (بلاتونوف):

وكانت الاصوات في جزيرة سولوفيتسكي عبارة عن ضرب الرأس بأسَّرة السجن عندما كان الحارس يدخل ويمسك السجين من شعره ويستمر بضربه بقائمة السرير إلى أن يشعر بالتعب.

بعد ذلك يركز الكاتب في هذه الرواية على حركة الحياة في زمن الإتحاد السوفيتي من أجل فضح عيوب السلطة آنذاك، تطور الاحداث في الرواية يعتمد اعتمادًا كليًا على ذاكرة البطل ومدى قوتها ولكنها في نهاية المطاف تضمحل وتتلاشى تدريجيا الخلايا المسؤولة عن ذاكرة. 

الشيء الذي يُحسب للكاتب انه يتلاعب بالزمن بطريقة عفوية وتلقائية وهذا الأمر أضاف لنص (يفغيني فودولازكين) قوة وجعله متميزًا عن النصوص الاخرى، ليس هذا فحسب، بل أتاح الكاتب مساحة كبيرة لأبطاله لتعبير عن افكارهم باستقلالية، فيقول:

لو لم يكن التاريخ الروسي بهذا القدر من الظلم لكانت (ناستيا) حفيدتنا المشتركة أنا و(أنستاسيّا). ومع ذلك، هل القضية تكمن في التاريخ وحده؟ وهل يجوز أنْ نُلقي هكذا باللوم على التاريخ في كل شيء؟

بعد ذلك يكتشف البطل ان هناك هوة بينه وبين الناس المعاصرين، فيقول:

لو كنت معاصرًا للناس الحاليين، لشعرتُ بالرضا من هذه الشهرة وانتشيتُ بها ولكنتُ لملمتُ أطراف المجد كلها على ما أعتقد. بيد أنني غريب عنهم، فما الذي يُثبت وضعي بينهم؟ إنهم ينظرون إليًّ وكأني سمكة في حوض، في عيونهم الفضول وحده. أشعر بأني لا أعرف من أكون.

وتتسع هذه الهوة حتى نهاية الرواية، فيقول البطل:

أحاول الاقتراب من الماضي بطرق مختلفة لفهم ما هي حقيقته. هل هو شيء منفصل عني أو مازلت أعيش به إلى اليوم؟ كان لدي ماضٍ قبل سباتي في الجليد، لكن لم يكن لدي انفصال كما هو الآن. كل ما تذكرته عن ماضيّ لم يجعله أقرب إلي. إنه الآن يشبه يداً مقطوعة ومخيطة من جديد. ربما، تتحرك بطريقة ما، لكنها لم تعد يدي.

الشيء الجميل الذي نجده في رواية (الطيار) هي الحكمة التي تفوح على لسان ابطاله وآرائهم التي تستند عن بصيرة ثاقبة :

الحكمة، بشكل عام، هي أولاً وقبل كل شيء خبرة. خبرة إدراكية، بالطبع. إذا لم يكن ثمة إدراك، فإن كل الكدمات التي تتلقاها من أجل الحصول على الخبرة لا فائدة منها.

ولم يقف إلى هذا الحد بل راح يدلي برأيه حول الفن، فيقول:

ولكن هناك لحظة مذهلة تبدأ فيها الصورة تشعُ عطراً. لان الفن الحقيقي – هو تعبير عما لا يمكن التعبير عنه، عما تكون الحياة من دونه غير مكتملة. إن السعي لإتمام التعبير هو السعي إلى إتمام الحقيقة.

واخيراً، يحاول الكاتب ان يرد على أسئلة حيوية تمس الحياة الروسية في هذه الرواية، فيقول:

أنه كان يعتقد أنّ السلطة السوفيتية سترحل – وستعيش حياة! حسناً، وماذا – هل عشنا الأن واندملت جروحنا؟ كم سنة مرت على رحيل السلطة السوفيتية – فهل اندملت جروحنا وهل شفينا؟

وهنا الإشارة واضحة مازال الجرح لم يندمل وعلى السلطة ان تعترف بأخطائها التي مازالت إلى الان تكابر ولم تعترف ودليل على ذلك مشهد اللقاء الذي جرى في نهاية الرواية، بحيث يكتشفون بأن احد الجلادين الذي كان يشرف على تعذيب البطل (بلاتونوف) مازال حيًا وعمره مائة عام، هذا الامر أعطى حافزا كبيرًا للبطل بأن يلتقي بجلاده، أراد الكاتب هنا أن يقول مازلنا نتذكر ولم ننسَ ما جرى في هذه الحقبة المظلمة، فيقول الكاتب على لسان بطله:

أظن أنه اختلق قبضة القدح لشغل يديه. حتى يتمكن من عدم مد يده للسلام أولاً – فقد كان يخشى ألا يُردُّ عليه. وأنا، على سبيل المثال، لن أمد يدي لمصافحته بأي شكل من الأشكال.

وهنا على ما يبدو لي أن (فلاتونوف) يمثل الشعب، أما (فورونين) الجلاد كان يمثل السلطة السوفيتية. والنقطة الاخيرة والجوهرية التي لابد ان أشير إليها في هذه الرواية البطل يحثنا دائما على الكتابة على أمل إنقاذنا من النسيان، فيقول في نهاية الرواية:

أصف الأشياء والأحاسيس. وأصف الناس. أنا أكتب الآن كل يوم على أمل إنقاذها من النسيان.


بقلم: حسين علي خضير

مراجعة وتدقيق: أحمد بادغيش

زر الذهاب إلى الأعلى