الألم النفسي في أدب عبدالرحمن منيف
بعض الناس يتوهمون خصومهم بالأشياء المادية
شخصيًا أعتقد أن التحليل الروائي لا يخترق الكاتب بقدر ما يخترق الشخصيات المكتوبة والمحلل نفسه، إذ أشعر أن الكاتب حربائي متلون يستطيع الإنزواء عن الأنظار في زاوية مرتفعة عن مشهد الخلق الأدبي، ومن ثم يتركك معه كلما أُلصقت به صفة عادت عليك وكلما حاولت تحليله تصادمت به مع نفسك، لكن بالطبع تستطيع استيعابه أو فهمه، لكي تفهم الكاتب عليك ان تفهم المكتوب، ولكي تفهم المكتوب فعليك أن تتعامل معه كحقيقة واقعة لا جدلية في حدوثها، وعند النقطة التي تنغمس فيها بكل حواسك، حتمًا ستستطيع رؤية بعض من الكاتب من خلال أفكاره المخبأة في شخوص النص الروائي.
عُرف (عبدالرحمن منيف) كخبير اقتصادي وأديب وناشط سياسي، واشتهرت رواياته بأنها تمثل سيرة ذاتية لشبه الجزيرة العربية ويعتبر أحد أهم الروائيين العرب خلال القرن الماضي. بدايتي معه كانت لاهتمامي بالأدب العربي وبأشهر الروائيين العرب، ولأن (منيف) مثل (نجيب محفوظ)، محطة تجبر على المرور بها في أحد مراحلك القرائية، لطالما سمعت وقرأت في المراجعات عن مهارته في السرد الأدبي، ولكن ليس هذا ما شد انتباهي حين قرأت له، رغم أنها تحسب له بالتأكيد، لكن ما أثار دهشتي هو قدرته على استعراض الآلام النفسية لدى الشخصيات، لقد كان دقيقًا جدًا في إظهار الاعتلالات النفسية التي نشأت لدى كل شخصية من خلال تعاطيها مع واقعها المؤلم.
كانت بدايتي مع (شرق متوسط)، روايته الأحب والأقرب إليّ آن ذاك، تحكي الرواية المكونة من ست فصول عن شخصية (رجب)، وهو معتقل سياسي في بلاد لم يذكر الكاتب اسمها ولم يعرف الهوية الحقيقية لأي من شخصيات الرواية، ويروي (منيف) الألم الذي حل بـ(رجب)، كما وشاركته ذلك الألم عائلته المكونة من امه واخته وزوجها (حامد)، وكيف طالهم الأذى ولم يقتصر الامر فقط على (رجب).
يبتدئ (منيف) الرواية ببيانٍ لحقوق الانسان، كطريقة هزلية لعزاء (رجب)، حيث إن ما تعرض له ينافي كل ما وجد في ذلك البيان، لأنه معتقل تحت ظروف سيئة انعدمت فيها كافة الاحتياجات المذكورة في “هرم ماسلو“، ناهيك عن حفلات التعذيب غير الادمية التي كانت تتكرر مرات عديدة وطرق قاسية ومبتكرة. ثم يبدأ بذكر أبرز حدث والذي تنطلق منه الرواية وهو ما حطم الكثير في نفس (رجب) حين يجبر على التوقيع على ورقة اعتزاله الحراك السياسي، وكما أن هذه الورقة هي سبيل نجاته الوحيد فإنها أيضًا كانت من أشد هزائمه، إذ يتضح للقارئ أن هذا كان أولى سقطاته حيث سيطرت عليه مشاعر الخزي والعار والخوف بعد التوقيع، وفي تلك الليلة لم يستطع النوم خوفا من أن يقتله أحد أصدقائه.
ولأن (رجب) كان صامدًا طوال الخمس سنين التي عذب بها، لم يفكر بالخروج إلى أن جاءه خبر موت أمه الذي حين سمعه انهار جسده دفعة واحدة، حيث يتأثر الجسد الفيزيولوجي بتأثر السايكلوجية النفسية الأساسية لهذا الجسد، وحيث كانت أمه تمثل لديه مركزية الأمان والقوة والدعم، فإن انسحابها عن المشهد سبب له انهيارًا لم يقدر على مداواته، تعاطى (رجب) مع موت أمه بصعوبة دامغة، بعد الانهيار الجسدي الذي تعرض له جراء مرضه، قرر على مضض أن يوقع ويخرج خوفًا من الموت وطلبا للعلاج.
لاحقا، وبعد خروجه يسأل أخته، في مشهد لا يستطيع القارئ انتشاله من ذاكرته، استدرجها لكي تتحدث له عن موت أمه فكانت ردة فعله على شكل إيذاء للذات لفرط مابدا له الألم النفسي الذي حل به جراء فقدانها غير محتمل، لقد كان مشهدًا موجعًا كما تصفه (أنيسة):
وضرب وجهه، وضرب جبهته. كانت صرخاته حادة مزقت صمت الليل، وكانت ضرباته مثل سكاكين تنغرز في القلب. هجمت عليه أريد منعه، دفعني بقوة، وضرب رأسه بالجدار.
أما عن شعوره بالتأنيب لموت أمه، في نصّ يدمي القلب يناجي نفسه:
وأنتِ يا أمي لماذا رحلتِ قبل أن أراك؟ أأنا قتلتك؟ صدقيني أنني لم أقتل أحد يا أمي هم قتلوا كل الناس.
وفي نوبات الغضب غير المبررة:
أمسكها من كتفها وهزها بقوة يريد أن يوقعها على الأرض، لم تكن تدري أن زغرودة فرح يمكن ان تتسبب له بمثل هذا الغضب.
وفي مشهد اقتلاع الشجرة لاقتلاع العار الذي يلوج في صدره:
ولأول مرة رأيت وجه (رجب) يتقلص من الألم ثم تركني بسرعة. ارتكى على حائط الدار باستسلام يائس، وبعد لحظة صمت مدمرة بكى، كان بكاءً متوجعًا، أقرب الى النشيج […] قبل أن ينتهي ذلك اليوم رأيت (رجب) والعرق المريض يغسله تمامًا، كان يحاول قطع الشجرة.
توضح (أنسية) لزوجها تاليًا:
بعض الناس يتوهمون خصومهم بالأشياء المادية.
وكتب على لسان إحدى الشخصيات عن استخدام الصمت كوسيلة للحماية:
أنتِ لم تري السجن، لو رأيته يوما لتغير صوتك، كانوا يريدون صوتًا، مجرد صوت، يصرخون “قل كلمة يا ابن ..” وأصمت، لا أقول شيئًا ويضربون، لو عرفت السجن يا (اشيلوس) لتعلمت كيف تصمتين. لو توقف صوتك دفعة واحدة فإن الرعب سيشلهم، سيموتون.
ووصف (منيف) مرحلة اللامبالاة وتسليم (رجب) نفسه للحكومة:
سأضع الأوراق في مكانها، وسأعود للوطن. أنتظر أن يقبضوا علي، أن يعذبوني، أن يقتلونني بالرصاص، لم يعد الأمر يهمني.
وعن الأفكار الانتحارية في أفكار (رجب):
أميل برأسي قليلا لكي أسمع وقع الخطوات في الدهليز، ولا أجد شيئا يمكن ان أقوله، ماذا لو شنقت نفسي؟ في سقف الغرفة، إلى جانب حبل النور المتدلي، حلقة يمكن ان أمزق ثيابي، أصنع منها حبلا، أقف على الكرسي حتى أسقط الحبل في الحلقة، أمسكه من الناحية الثانية، أعقده، حتى إذا ربطته جيدًا صنعت حلقة في الحبل ووضعتها في عنقي وفي لحظة أدفع الكرسي وأتدلى أرتعش في محاولة لأن أسحب الهواء لأن أرخي الحبل لكن الفقرات تكون قد انزلقت وأنتهي.
وعن شعوره بأنه أقل من غيره، ونفوره من ذاته:
لماذا حملتِ معك تلك الجيفة يا (اشيلوس) طوال ثمانية أيام، ألم تقتلك الرائحة؟ رائحة الرجل الميت؟ لم أرَ أحدًا غيري على ظهر السفينة يحمل هذا المقدار كله من رائحة الموت.
وفي استرجاع ذكريات التعذيب حين خلع قميصه للعلاج:
استقبلني ثلاثة أطباء، امرأة ورجلان، عرّوني من ثيابي تمامًا، كنت وأنا انزع ثيابي أتذكر (نوري). كانت الغرفة دافئة، بلونها الأزرق الهادئ، والملاءة الموضوعة على طاولة فحص نظيفة، شعرت أني لا أستحق ذلك.
وعن تأثير التعدّى الجنسي على الجانب النفسي في الإنسان:
لم أعد أطيق ان أظل حيًا يومًا […] كنت أريد أن أفعل شيئًا، لكن الشعور بالعجز جعل الفكرة ترتد إلى داخلي مثل موجة النار. كنت أخاف من الفشل، من السخرية، أردت ان أقول لها أنى مريض، أو متعب، لكن الكلمة الوحيدة التي سمعت نفسي أقولها: أنا لست رجلا.
وفي فقدان المعنى:
هل يعرف هؤلاء الناس معنى أن يكون الإنسان سجينا؟ ليس سجينا فقط وإنما سجين في تلك السراديب المظلمة الباردة المليئة بالحشرات، وفي فترات الراحة يتلقى الصفعات ويُجلد مثلما تجلد الثيران النابية؟ كنت أريد أن أشعر بميزتي.
وشعور (رجب) بأنه منبوذ:
أشعر أنني منبوذ إلى الحد الأقصى، وأني أعاقب على تلك الخطيئة التي بدأت ذات يوم، ولن تنتهي أن ما أتلقاه الآن أستحقه، أستحقه تمامًا.
وفي اضطراب الطعام:
الجوع أحسن معلم، قبل السجن كان لي مزاج خاص: هذا طيب، هذا أحبه، هذا لا أحبه. في السجن كنت آكل أي شيء، ولكي لا أعلق. قال: “حشو مصران”، المهم أن يأكل أي شيء، فقط لكي لا يجوع، ومع ذلك كان الأكل لذيذًا.
هذه كانت أبرز الآلام النفسية التي عانى منها (رجب)، والتي وددت استعراضها في هذا المقال، والحقيقة أني قد تركت الكثير، ولكنني حاولت أن أضع المدهش والأدق، وحيث أن عالم (منيف) كان محفوفًا بالدهشة، ربما سأستدرك ماتبقى في موعد لاحق.
بقلم: شروق العنزي
مراجعة وتحرير: أحمد بادغيش