المعرفة والفكر الفلسفي

أحاديث نورمان فيركلف حول اللغة والسلطة

نورمان فيركلف من مواليد 1941، وهو أستاذ اللغويات في جامعة لانكاستر، أحد أهم مؤسسي تحليل الخطاب النقدي وتطبيقاته في مجال السوسيو لغويات (علم اللغويات الإجتماعية).

في كتابه الأبرز (اللغة والسلطة)، والذي قدّمه إلى المكتبة العربية الأستاذ (محمد عناني)، يُصَدِر المؤلف الطبعة الثانية بالحديث عن موضوع الكتاب، بأنه “يدور حول العمل الذى تؤديه اللغة للحفاظ على علاقات السلطة، وتغييرها في المجتمع المعاصر، وحول أساليب تحليل اللغة بحيث تكشف عن هذا العمل بشقيه وحول زيادة وعي الناس به، وزيادة قدرتهم على مقاومته وتغييره”.

موضوع هذا الكتاب للغة والسلطة، أو بمزيد من الدقة الروابط، بين استعمال اللغة وعلاقات السلطة غير المتكافئة وقد كتبته لغرضين رئيسيين: الأول نظري وهو المساعدة على تصحيح ظاهرة واسعة الانتشار، ألا وهي التقليل من أهمية الدور الذى تضطلع به اللغة، في إنشاء علاقات السلطة الإجتماعية، والحفاظ عليها وتغييرها، والثاني عملي وهو المساعدة على زيادة الوعي، بالاسلوب الذى تسهم به اللغة، في تمكين بعض الناس من السيطرة على البعض الآخر، لأن الوعي يمثل الخطوة الأولى في طريق التحرر.

والتركيز في هذا الكتاب ينصب على محاولة شرح الأعراف القائمة، باعتبارها من ثمار علاقات السلطة، وضروب الصراع على السلطة، وسوف يؤكد مدخل “الافتراضات المنطقية” الكامنة في الاعراف، التي تحدد التفاعل اللغوي بين الناس، والتي لا يتمتع الناس عادة بالوعي بها، ومن الأمثلة على هذا كيف أن أعراف الاستشارة التقليدية بين الطبيب والمريض، تجسد افتراضات منطقية، تعتبر السلطة والمراتبية أمرًا طبيعيًا، بمعنى أن الطبيب يعرف الطب والمريض يجهله، وأنه من الصحيح  و”الطبيعي” أن يتولى الطبيب اتخاذ القرارات، والتحكم في مسار الاستشارة والعلاج، وأن على المريض أن ينصاع له ويتعاون معه، إن امثال هذه الافتراضات أيديولوجيات، والأيديولوجيا ترتبط ارتباطا وثيقا بالسلطة.

اللغة والكلام:

اشتهر التمييز بين اللغة والكلام، بسبب العمل الذى قام به عالم اللغة السويسري (فرديناند دي سوسير)،  كان (سوسير) يعتبر اللغة (Langue) نظامًا أو شفرة، تسبق الاستخدام الفعلي للغة، وهي موحدة بين جميع أفراد الجماعة اللغوية، وتمثل الجانب الاجتماعي للغة، في مقابل الكلام (Parole) الذى يعتبر فرديًا، وكان يرى أن الكلام المنطوق أو المكتوب فعلًا، تتحكم فيه الخيارات الفردية فقط، ولا يتحكم به المجتمع على الإطلاق، وهكذا فإن علم اللغة في نظر (سوسير) يهتم في المقام الاول باللغة لا بالكلام.

الخطاب باعتباره ممارسة اجتماعية:

اللغة جزء من المجتمع، وليست خارجة عنه بصورة ما، وثانيًا أن اللغة عملية اجتماعية، وثالثًا أن اللغة عملية يتحكم فيها المجتمع، أي أنها تخضع لتحكم جوانب اخرى (غير لغوية)  في المجتمع، فأما الظواهر اللغوية فهي اجتماعية، بمعنى أنه حيثما تكلم الناس أو أنصتوا أو كتبوا أو قرؤوا، فإنما يفعلون ذلك بطرائق يحددها المجتمع، ولها آثار اجتماعية، وحتى حين يصل وعي الناس بفرديتهم إلى ذروته ويتصورون أنهم برئوا إلى اقصى حد من الآثار الاجتماعية – في أحضان الأسرة على سبيل المثل – فإنهم يستخدمون اللغة أيضا بطرائق تخضع للأعراف الاجتماعية، والظواهر الاجتماعية لغوية، من ناحية أخرى، بمعنى أن النشاط اللغوي الذى يجري في السياقات الاجتماعية – شأن جميع ألوان النشاط اللغوي- ليس مجرد انعكاس أو تعبير عن العمليات والممارسات الاجتماعية، بل يمثل جزءًا من هذه العمليات والممارسات، كالمنازعات حول معنى بعض العبارات السياسية.

النص مُنتَج لا عملية، فهو منتج لعملية انتاج النص


في فصل آخر من فصول الكتاب، يكتب نورمان فيركلف عن علاقة السلطة بالخطاب، فيقول مستفتحًا:

يركز هذا الفصل على جانبين رئيسيين هما: السلطة في داخل الخطاب، والسلطة من وراء الخطاب.

والسلطة في داخل الخطاب تتناول الخطاب باعتباره مكانا تُمارس فيه علاقات السلطة، وتتجسد في الواقع الفعلي، والنقاش حول الخطاب المنطوق في المحادثات المباشرة، أو السلطة في الخطاب الذى يجري عبر الثقافات، والسلطة الخفية في خطاب أجهزة الإعلام الجماهيرية، وهي سلطة لا يملكها أبدًا وبالقطع فرد واحد أو فئة اجتماعية واحدة، لأن السلطة لا تُكتسب أو تمارس إلا في غمار الصراعات الاجتماعية ومن خلالها، ونستطيع أن نقول استنادا إلى أمثلة من هذا النوع، إن السلطة في الخطاب تتعلق بقيام المشاركين من ذوي السلطة، بالتحكم في أقوال المشاركين من غير ذوي السلطة، وفرض القيود عليها.

ويميز فيكلف بين ثلاثة أنماط من هذه القيود، فيذكر أن بعضها قيود تفرض على:

  • المضمون: أي ما يُقال ويُفعَل
  • العلاقات: أي العلاقات الاجتماعية التي تنشأ بين الناس في الخطاب
  • الذوات: أي مواقع الذوات التي يستطيع الناس. احتلالها

ويطرح المثال التالي كتوضيح: مشكلة سقوط بعض حمولة المحجر:

“لا تزال الشاحنات غير المغطاة الخارجة من محجر (ميدلبارو) تثير المشاكل، لأنها تسقط بعض الاحجار منها، اثناء مرورها بقرية وورتون، حسبما بلغ اعضاء مجلس الابرشية في اجتماعهم، وقد أرسلت ملاحظات المجلس إلى إدارة المحجر ويامل الأعضاء في أن يروا ادخال بعض التحسينات

من الذى. يمارس السلطة فعليا في هذا المقال القصير؟

ربما يكون الصحفي الذى كتب المقال، ولكن المشهور أن الصحفيين يخضعون لسلطة رئيس التحرير، وإذن فربما يكون المسؤول رئيس التحرير، أو ذلك الكيان المبهم الذى يسمى بالصحيفة، باعتبارها مؤسسة جماعية، ولكن هل الصورة التي تمثل اجتماع مجلس الأبرشية من رسم الصحيفة وحدها؟ أو ليس من المحتمل أن الصحيفة تقدم صورة رسمها شخص آخر؟  وإذا كان الأمر كذلك، أليس يعني منح قدر معين من السلطة لذلك الشخص الآخر؟

الذى أريد التركيز عليه هنا هو مبدأ “العلية”:

أي من الذى يصوره الخبر في صورة المتسبب في حدوث ما حدث، أو من الذى يصوره في صوره من يفعل شيئا يعود بالضرر على البعض، إن البناء النحوي للعنوان بناء الجملة الإسمية، أي أن الفعل معبر عنه بإسم، ومن بين آثار هذا الشكل النحوي ترك بعض الجوانب الجوهرية للحدث دون تحديد، فنحن لا نعرف من أو ماذا يسقط الحمولة، أو يتسبب في أن تسقط، أي أن العلية غير محددة، والفقرة الأولى من الخبر توضح الحدث، وإن لم يكن الوضوح كبيرا، فالعلية تُنسَب إلى الشاحنات غير المغطاة التي تخرج من محجر ميدلبارو، وهذا في حد ذاته يتضمن علية غير محددة، فعبير غير مغطاة يعني ضمنيا عدم حدوث شيء، أي أن شخصا ما لم يقم بتغطية الحمولة، وكان الواجب (فيما نظن) أن يفعل، فمن الصعب أن نقبل حرفيا القول بأن الشاحنات سبب المشكلة، ومن الواضح أن السبب قد يكون غن اختلف تصوير الحادثة، من أشرنا إليه بانه شخص ما، والمفترض انه إدارة المحجر أو العاملين تحت سلطة هذه الإدارة، ولكن إدارة المحجر لا يشار إليها إلا في الفقرة الثانية، من هذا الخبر، باعتبارها قد تلقت ملاحظات المجلس، وهو مصطلح يتحاشى من جديد نسبة أي مسؤولية إليها.

السلطة التي تمارس هنا، فهي سلطة إخفاء السلطة، أي إخفاء سلطة أصحاب المحجر، على أي يتصرفوا بأنانية، وهم بمنجى من العقاب أي أنها من أشكال السلطة القادرة على فرض قيود على المضمون، لصالح تفسيرات وصياغات معينة للأحداث، واستبعاد غيرها، وهي من أشكال السلطة الخفية، إذ أن التفسيرات والصياغات الراجحة، تنتمي لمن يمسكون بزمام السلطة في المجتمع، وإن بدا أنها تنتمي إلى الصحيفة وحسب.


في الفصل الرابع المعنون بـ”الخطاب والمنطق السليم والأيديولوجيا”، وضمن الحديث عن الافتراضات المضمرة والمعنى المترابط والاستنباط، يكتب المؤلف:

ماذا عليك أن تفعل حتى تفهم نصا كاملا – قد يكون مكتوبًا أو منطوقًا – أي حتى تصل إلى تفسير مترابط له، على فرض أنك تعرف من قبل معاني مكوناته؟ لن أحاول أن اقدم إجابة شاملة لهذا السؤال الكبير، بل سأقترح عليك أن تفعل شيئين:

– الأول أنه يجب عليك قطعًا أن ترى كيف تتصل اجزاء النص بعضها بالبعض.

– والثاني أنه يجب عليك أن ترى كيف يتصل النص بخبرتك السابقة بالعالم: ما جوانب العالم التي يرتبط بها، بل وما مفهوم العالم الذى يفترضه سلفًا.

وباختصار عليك أن تقيم “مواءمة”بين النص والعالم، وهذه ارتباطات نصنعها نحن، باعتبارنا مفسرين للنصوص، أي أن النص نفسه لا يصنعها، ولكننا لا بد لنا حتى نصنعها أن ننهل من “الافتراضات والتوقعات” القائمة في الخلفية. 

تلك الإفتراضات والتوقعات القائمة في الخلفية، يطلق عليها (نورمان فيركلف) مسمى “موارد الأعضاء”؛ ويقصد بها الخلفيات الثقافية والفكرية والبيئة الاجتماعية والسياسية وغيرها، التي كونت معارف وأنماط وطرق تفكير الناس في مجتمع أو جماعة ما، ويطرح مثالا هنا، من ضمن أمثلة عديدة يطرحها في الكتاب، حول أنماط الإرتباط بين النص والعالم:

من مقال حول الأحجار الكريمة المرتبطة بموعد ميلاد المرء، تقول الجملة:

“اشتهر عن العقيق الأزرق على امتداد قرون كثيرة، أنه حجر سئ الطالع، بمعنى أن من يتزين به يصادف سوء الحظ”

ما صورة العالم التي تحتاج إلى افتراضها مؤقتا، ناهيك عن قبولها، حتى تفهم هذه الجملة؟

ربما كنا نحتاج إلى عالم. تستطيع الاشياء فيه، مثل الأحجار الكريمة، أن تؤثر في حياة الإنسان وفي حظوظه، فالنصوص من هذا النوع طريفة لأنها تفترض سلفًا رؤية للعالم، تتفق مع “المنطق السليم” عند بعض الناس، لكن الآخرين يرونها غريبة على نحو ما.

“المنطق السليم” أيديولوجي في جوهره، وإن لم يقتصر على والايديولوجيا”.

قام الإيطالي (أنطونيو جرامشي) بإستكشاف هذه العلاقة، مشيرا إلى وجود “شكل من اشكال النشاط العملي، يتضمن فلسفة في صورة مقدمة منطقية نظرية مضمرة، وإلى وجود تصور معين للعالم، يتضح اضماره في الفن وفي القانون وفي النشاط الاقتصادي وجميع تجليات الحياة الفردية والجماعية”، وهذا التصور للايديولوجيا باعتبارها فلسفة مضمرة في الأنشطة العملية للحياة الإجتماعية، كامنة في الخلفية ومُسَلَم بها. 

باعتبار أن الأيديولوجيا ترتبط ارتباطا جوهريا بعلاقات السلطة، فلنفهم المنطق السليم وفقا لذلك بأنه المنطق السليم في خدمة الحفاظ على علاقات السلطة غير المتكافئة.


وفي فصل آخر من الكتاب، يتناول فيه الخطاب في التغير الاجتماعي، يتحدث (فيركلف) عن أسلوب العمل الأيديولوجي للإعلانات، ويقسمه إلى:

  • بناء العلاقات: يجسد الخطاب الإعلاني تمثيلا أيديولوجيا للعلاقة بين المنتج/المعلن للمنتجات المعلن عنها والجمهور، وهو ما يسهل العمل الأيديولوجي الرئيسي.
  • بناء الصور: تدفع الإعلانات جماهيرها إلى الإنتفاع بعناصر أيديولوجية في “مواردها الذاتية” في تكوين صورة للمنتجات المعلن عنها.
  • بناء المستهلك: تستخدم الإعلانات الصور التي يساعد الجمهور في توليدها، للمنتجات باعتبارها وسائل معينة، وهذا هو العمل الأيديولوجي الرئيسي للإعلان.

العمل الايديولوجي الرئيسي للاعلان بناء مواقع ذوات للمستهلكين، باعتبارهم. أعضاء في جماعات استهلاكية، وهذا العمل يستخدم صورًا يولدها أفراد الجمهور للمنتجات باعتبارها وسائل توصيل.

ولكن بأي معنى يمكن للمرء أن يتحدث عن بناء الإعلانات للمستهلك، أو جماعة المستهلكين؟ لقد حول الإعلان الناس إلى مستهلكين، أي أنه أحدث تغييرًا فيما أصبح الناس عليه، بمعنى أنه يقدم أشد النماذج اتساقا في المعنى، وإلحاحا على الذهن لحاجات المستهلك، وقيمه وذائقته وسلوكه ولقد فعل هذا بمخاطبة الناس، كأنما كانوا جميعًا قد بلغوا من قبل مكانة المستهلكين الكاملة، وفقا للمنطق السليم، والقضية العامة هي أن الناس إذ أرغموا في كل يوم على احتلال موقع الذات للمستهلك، فسوف بصبحون على الأرجح مستهلكين.  


بقلم: عبدالخالق مرزوقي
مراجعة وتحرير: أحمد بادغيش
زر الذهاب إلى الأعلى