المعرفة والفكر الفلسفيترجمات حصرية

نحو فلسفة أخلاق من أجل كوكب الأرض

الحياة فريدة كلّها وتستحقّ الاحترام، مهما كانت فائدتها للإنسان، ومن أجل الاعتراف بهذه القيمة الجوهريّة من طرف الكائنات الحيّة الأخرى، يجب أن نسترشد بقانون العمل الأخلاقيّ

مقدّمة

عندما يتسارع تآكل التّنوّع البيولوجيّ بسرعة فائقة، وعندما نفقد ستّة هكتارات في الدّقيقة من الغابات الاستوائيّة الخام، ويختفي الوعل (ماعز برّي) من غابات كيبيك، مع لامبالاة عامّة تقريبًا. فيجب علينا أن نستنتج أنّنا لا نهتمّ كثيرًا بالتّنوّع البيولوجيّ، على الرّغم من الأحاديث والخطابات كلّها، والنّوايا الحسنة التي نعلنها.

هذا الفشل الجماعيّ متجذّر في أزمة القيم-أزمة أخلاقيّة، فكيف نعيد بناء علاقاتنا مع الطّبيعة لمواجهة تحدّيات كوكب الأرض؟ جدير بالذّكر، وقبل سبعين عامًا، قدّم عالِم البيئة الأمريكيّ (ألدو ليوبولد) إجابات عن هذا السّؤال الذي يعتبر اليوم موضوعيًّا للغاية. حيث لخّص في مقدّمة كتابه (تقويم من مقاطعة الرّمال) [A Sand County Almanac]، كون:

الحفظ لا يحقّق شيئًا، لأنّها فكرة تتعارض مع فكرتنا الإبراهيميّة عن الأرض. فنحن نستغلّ الأرض لأنّنا نراها سلعة لنا؛ وإذا ما اعتبرناها عكس ذلك، أي مجتمعًا ننتمي إليه، فسيمكننا الاستمرار في استخدامها بمحبّة واحترام.  


الأرض باعتبارها مجتمعًا

لا يعرف الكثير من عامّة النّاس من هو (ألدو ليوبولد)؟ إنّه عالِم بيئة أمريكيّ، وُلد سنة ١٨٨٧م في آيوا، وتخرّج من مؤسّسة المياه والغابات بجامعة يال سنة ١٩٠٩م. وبعد مساعدته في إدارة المحميّات الطّبيعيّة في نيو مكسيكو وأريزونا، عمل أستاذًا في العلوم البيئيّة بجامعة ويسكونسن ماديسون، حتّى وفاته المأساويّة في أبريل سنة ٢٩٤٨م. كان ذلك في الواقع، خلال إنقاذ جاره المزارع، أثناء حريق في الغابة، إذ توفّي بنوبة قلبيّة عن عمر ناهز الواحد والسّتّين عامًا، عندما تمّ قبول مخطوطه للتوّ، (تقويم من مقاطعة الرّمال)، الذي سيصدر كتابًا في العام التّالي، ولم يُترجم إلى الفرنسيّة حتّى سنة ١٩٩٥م. 

حاول (ألدو ليوبولد) تسليط الضّوء، في العديد من مقالاته، على المشاكل البيئيّة النّاجمة عن العمل البشريّ الطّائش. على سبيل المثال، فهو قلق بشأن الاستيلاء على الأهوار والمستنقعات عن طريق الزّراعة، إذ يذكّر أنّ هذه “الأراضي التي تعتبر عديمة الفائدة” تلعب دورًا أساسيًّا: فهي تؤوي تنوّعًا كبيرًا من الأنماط النّباتيّة والحيوانيّة، وتنقّي المياه الملوّثة، وتعمل مثل الإسفنج، وتمنع الفيضانات وتآكل الضّفاف. لنأخذ مثالًا آخر، فقد  شعر بالحزن عندما زار غابة سبيسارت في ألمانيا، لرؤيته الفرق بين ثراء الأنواع الحيوانيّة والنّباتيّة على المنحدر الجنوبيّ، الذي يغلب عليه السّنديان، وبين الفقر على المنحدر الشّماليّ، الذي كان يبدو شديدًا، اللّهمّ إذا استثنينا إعادة غرس أشجار الصّنوبر فيه؛ فـ”الغلاف يسمح بأرباح أسرع، كما يلاحظ، ولكنّه يساهم في إفقار النّظم الإيكولوجيّة للغابات. ناهيك عن عِلم المسؤولين به، ولكن –لأسباب تتعلّق بالرّبح الفوريّ- نستمرّ في التّصرف كما لو أنّنا لم نفكّر في درس غابة سبيسارت”. 

لا تزال هذه الكلمات التي مرّ عليها سبعون عامًا، ذات صلة بما يحدث اليوم. فمثلًا في كيبيك، يستمرّ زحف تساقط الغابات مدفوعًا بإعانات الدّولة، على الرّغم من الآثار البيئيّة السّلبيّة الظّاهرة، والنّتيجة أن تدهورت هذه الغابات الغنيّة جدًّا، وأفقرَها الاستغلال الصّناعيّ المتفشّي، وهذا يجب دفعنا إلى استعادتها بذكاء –وهو ما لا نفعله-. حيث يقول (ألدو ليوبولد) في هذا النّصّ:

يجب أن نحتفظ بكلّ ترس وميكانيزم، فكلّ ترس يشكّل أساس العامِل الماهر، ولكن هل تعلّمنا نحن الحفاظ على جميع تروس آلية الأرض؟

إنّه سؤال بليغ جدًّا.    

يبدو مفهوم (ألدو ليوبولد)، عن الطّبيعة، قريبًا من عِلم كونيّات الشّعوب الأصليّة، وخاصّة الهنود الحمر، أو من نظريّة “غايا”، التي ترى الأرض كائنًا حيًّا عالميًّا، ولكن نقطة البداية مختلفة، إنّها نظريّة التّطوّر. حيث يقول: بفضل (تشارلز داروين)، تعلّمنا أنّ الإنسان:

ليس سوى رفيق متنقّل للأنواع الأخرى في ملحمة التّطوّر، وكان يجب أن يمنحنا هذا الاكتشاف، منذ زمان، شعورًا بالأخوّة مع المخلوقات الأخرى؛ أي الرّغبة في العيش وتركها أيضًا تعيش.

 على هذا الأساس، يقترح (ألدو ليوبولد) ما سمّاه أخلاق الأرض [land ethic]، إنّه مفهوم المجتمع الحيويّ، الذي يشكّل الإنسان جزءًا منه، بل يشكّل قلبه. إنّه أساس علاقتنا مع الأنواع الحيّة الأخرى، وهي علاقة عضويّة مماثلة لتلك التي تربط الأجزاء المختلفة من الجسم نفسه. ونظرًا لأنّها أجزاء متكاملة من الكلّ ذاته، فلكلّ واحد منها قيمة جوهريّة لا يجب تدميرها. إذ تربِط شُعَب الموائل المرجانيّة مع أنواعها، ولا يمكننا إنقاذها أصلًا، دون الحفاظ على الموائل المناسبة [هل سيكون (ألدو ليوبولد) متشائمًا بشأن بقاء الوعل في خضم قطع أشجار كيبيك؟ بلا شكّ…]، فيجب حثّ البشر على التّعاون باعتباره عضوًا في المجتمع البشريّ، وليس حثّه على العمل مدمِّرًا، لذا يلزم أن نتصرّف باستقامة:

وهو الشيء الصّحيح عندما نميل إلى الحفاظ على السّلامة، واستمرار المجتمع الحيويّ، خلاف هذا فهو تصرّف غير عادل.


مركزيّة البيئة، ثورة لم تأت بعد

يُعتبر (ألدو ليوبولد) اليوم، أحد أكثر المفكّرين تأثيرًا في الحفاظ على الطّبيعة، ومع بيع أكثر من مليوني نسخة باللّغة الأصليّة من كتابه (تقويم من مقاطعة الرّمال)، ألهم جيلًا كاملًا من العلماء ومتخصّصي البيئة. 

بحيث نجد آثارًا لفكر (ألدو ليوبولد) في العديد من نصوص الأمم المتّحدة، كما تؤكّد ديباجة الميثاق العالميّ للطّبيعة [١٩٨٢م]، كون:

الحياة فريدة كلّها وتستحقّ الاحترام، مهما كانت فائدتها للإنسان، ومن أجل الاعتراف بهذه القيمة الجوهريّة من طرف الكائنات الحيّة الأخرى، يجب أن نسترشد بقانون العمل الأخلاقيّ. 

وترتّب عليه بعد عشر سنوات، أن تمّ إنشاء اتفاقيّة التّنوّع البيولوجيّ لحماية القيمة الجوهريّة [يظهر التّعبير في الجملة الأولى من النّص] لهذا التّنوّع. أما بالنّسبة لميثاق الأرض، فهو يحدّد أولويّة مستوحاة مباشرة من ألدو ليوبولد، وفقًا لأحد واضعي النّصّ، وهي:

حماية واستعادة سلامة النّظم البيئيّة للأرض، ولا سيما التّنوّع البيولوجيّ، والعمليّات الطّبيعيّة التي تكفل الحفاظ على الحياة. 

وإذا كان لعالِم البيئة الأمريكيّ تأثير كبير، فكيف نفسّر أنّ الأخلاق التي يقترحها لم توضع موضع التّنفيذ؟ فهل نتّهم أنانيّة الأمم أم نشكو –مع (ماركس)– من أنّ الفلاسفة قد فسّروا العالَم فقط، بيد أنّه كان يجب تغييره؟ التّفسير هنا ربّما يكون قصيرًا بعض الشّيء. ولكن الباحث الأمريكيّ (بيرد كاليكوت)، قد شرع تحديد الأسس الفلسفيّة لكتابات (ألدو ليوبولد)، مانحًا، من وجهة نظره، أسبابًا أخرى. 

ووفقًا له، من خلال اعتبار أنّه من الضّروريّ منح القيمة ليس لفصل العناصر، ولكن إلى الكلّ الذي تشكّله، فإنّ نهج (ألدو ليوبولد)، الذي يمكن للمرء أن يعتبره مركزًا بيئيًّا، يتماشى والدّروس المستفادة من عِلم البيئة، ولكنّه في الوقت نفسه يتعارض مع النّهج الأخلاقيّ السّائد، والمؤهّل لأن يكون متمركزًا حول الإنسان، والذي يعترف بالكرامة الحقيقية للبشر فقط، ويترك كلّ شيء آخر خارج المحيط [يُنظر إلى الطّبيعة على أنّها مجموعة من الموارد الواجب استغلالها]. كما أنّه يختلف عن المركزيّة الحيويّة المرتبطة بالتّيّار الحديث لبيئة عميقة [deep ecology]، التي تصرّ على القيمة المحدّدة لكلّ كيان حيّ، ويتمّ النّظر فيها بمعزل عن بعضها البعض. ولأّنها كما يشرح (بيرد كاليكوت) تؤكّد على التّرابط بين الكيانات وانتمائها المشترك، فإنّ فكر (ألدو ليوبولد) لا يفضّله الفلاسفة المتخصّصون، فهم “غير مستعدّين لإدراك هذا المنظور الشّموليّ، ويميلون إلى رفض هذه الحجج باعتبارها غير أخلاقيّة، وتقليصها إلى اعتبارات تتعلقّ برفاهيّة الإنسان أو رفاهيّة بعض الأنواع غير البشريّة” [ضمن وقائع ندوة (ألدو ليوبولد)، جامعة أوريغون، ١٩٩٨م]. وباختصار، تعتبر أخلاقيات (ألدو ليوبولد) البيئيّة أكثر جذريّة ممّا قد يعتقده المرء للوهلة الأولى، إنّها تكسّر التّقاليد الفلسفيّة الغربيّة، وتقدّم انعكاسًا تامًّا للمنظور.

لكن، أليس هذا فقط ما نحتاجه لمواجهة أزمة التّنوّع البيولوجيّ، غير المسبوقة، التي تهدّد بتقويض قدراتنا على العيش فوق الأرض؟ وبينما بُنيت حضارتنا الغربية على فكرة أنّنا نمتلك الطّبيعة، فإنّ هذا المنظور الجديد يدفعنا إلى التّفكير في أنّ كلّ إنسان ينتمي إلى بيئة معيشيّة، هو في قلب هذه الطّبيعة. إنّه يدعونا إلى أن نسكن الكوكب بشكل مختلف، وأن نتفاعل بشكل مختلف أيضًا مع الأنواع الأخرى كلّها.


[المصدر]: مجلة الواجب الفلسفي-التاريخي، ١٧ أبريل ٢٠٢١


بقلم: جان بيير روجيل [Jean-Pierre Rogel] صحفي، وكاتب، هو مؤلف كتاب (كوكب البطل الأزرق: ثلاثون سنة لإنقاذ التنوع البيولوجي) طبعة ٢٠٢١م.

ترجمة: د. محمد كزو

زر الذهاب إلى الأعلى