الخوف من الموت وأثره على سلوك بطل رواية «الهارب» للكاتب الروسي #فالنتين_راسبوتين
تدور أحداث رواية (الهارب) حول جندي هرب من الجبهة في الحرب العالمية الثانية، بعد أن تعرض إلى اصابة جعلته يرقد ثلاثة شهور في المستشفى، يبرر البطل (أندري غوسكوف) أسباب هروبه، بأنه لا يؤمن بمسألة الحرب التي يقاتل من أجلها. وثانيًا، كان يؤمن إيمانا راسخًا بأنه أدى واجبه تجاه وطنه خلال ثلاث سنوات من القتال، فيقول:
وعندما استعاد وعيه وتأكد من أنه سيبقى على قيد الحياة هدأ وعلل النفس بأن واجبه الحربي انتهى. فليحارب الآخرون الآن!
ثالثًا، بنى آمالاً على إصابته، وكان لا يطلب الكثير سوى إجازه ليرى فيها عائلته، ولكنه تفاجأ بأن عليه أن يلتحق بوحدته العسكرية، فيقول الكاتب:
بيد أنه صعق في تشرين الثاني، عندما اقترب موعد الخروج من المستشفى، ذلك الموعد الذي انتظره بفارغ الصبر وكان يلعق جراحه من أجله. فقد أمروه بالالتحاق بالوحدة وليس بالذهاب إلى البيت. كان واثقاً من أنه سيوجه إلى البيت حتى عجز عن فهم الأوامر وتصور أن هناك خطأ، فراح يراجع الأطباء ويجادلهم وينفعل ويصيح. ولم يكن أحد يريد الإنصات إليه.
جميع هذه الأسباب ساعدت البطل على الهروب من الجبهة. وهنا لا بُد أن نشير إلى مسألة مهمة جدًا؛ أن البطل لم يكن جبانا ابدًا في المعارك التي خاضها قبل إصابته في الجبهة. وهنالك أيضًا سببًا أخيرًا عجّل في هروب (أندري) وهو عدم السماح لزوجته (ناستيونا) بزيارته في المستشفى، لأنه كان يعول على الإجازة التي يحصل عليها بعد إصابته، ومن هنا انطلق الصراع النفسي للبطل، فأخذ يسال نفسه وفي ذات الوقت هو من يجيب على هذه الأسئلة، فيقول:
هل يتوجب عليه حقاً ان يعود إلى الجبهة؟ أهله قريبون من هنا، قريبون جدًا. فليتوجه إليهم، وليكن ما يكون. عليه أن يأخذ بنفسه ما انتزع منه. خالف البعض الأوامر ولم يتعرضوا للعقاب. لقد سمع بحالات من هذا النوع
ولم يتوقف إلى هذ الحد بل أخذ يسأل نفسه هل هو يستحق العقوبة بعد ما حارب ثلاثة سنوات؟ بعد كل هذه المبررات التي ساقها البطل من أجل أن يهرب تحقق مراده، ووصل إلى قريته أتامانوفكا التي تفع بالقرب على الضفة اليمنى لنهر أنغارا. واستطاع ان يلتقي بزوجته سرًا دون أن يعلم أحدًا بهذا اللقاء.
ودخل البطل بمرحلة جديدة ممكن أن نطلق عليها الخوف من الموت وأثره على سلوك البطل، فأول شيء طلبه (أندري) من (ناستيونا) أن لا يعلم أحدًا بهروبه وإلا سوف يقطع لسانها في حال عرف أحدا ما. وأخذ يبرر لها سبب قدومه على هذا الفعل هو أنتم من دفعني إلى ذلك. وهنا (ناستيونا) كان لها دورًا كبيرًا في هذه الرواية، فمن خلالها استطاع الكاتب أن يصور لنا الحياة القروية في ظل الحرب آنذاك، وكيف كان الجوع ينهك القرية، وحتى الاطفال كانوا يحلمون بقطعة خبز، وكذلك كشف لنا النسوة التي تنتظر قدوم أزواجهن من الحرب، ومعاناة النسوة التي استشهد أزواجهن في الحرب وكيف كانت المرأة تعاني الامرين بسبب فقدانها زوجها وفي ذات الوقت ترك لها أفواهًا جائعة، فكانت (ناستيونا) هي النافذة التي ولج من خلالها الكاتب إلى حركة الحياة البائسة في القرية، وليس هذا فقط بل كانت (ناستيونا) كتلة من الوفاء و نموذجًا يقتدى بها، وقد حافظت على سر زوجها ليس خوفا من السلطة بل حبًا ووفاء لزوجها وضحت بحياتها من أجل هذا السر، فالكاتب (فالنتين راسبوتين) ليس جزافا حين قدم لنا هذه المرأة القروية الاصيلة بكل معنى الكلمة.
وفيما بعد دخلت (ناستيونا) في دوامة جديدة وهي تأنيب الضمير من هذه اللقاءات السرية بينها وبين زوجها وتسأل نفسها عشرات المرات: «ما الذي تريدهُ (ناستيونا) من هذه اللقاءات السرية بينها وبين زوجها في هذا المكان النائي؟»، فيجيب الكاتب عن هذا السؤال، قائلاً :
كانت ناستيونا تبحث في هذه اللقاءات عن تعويض عن الألم الذي يعتصر فؤادها لأن الزوجين مضطران على الالتقاء سرًا وبصورة نادرة. وكانت (ناستيونا) تريد لكل لقاء من تلك اللقاءات أن ينطوي على سنين من الحياة ويمتلئ بمغزى خاص وقوة كبيرة وحنان متميز
وكانت (ناستيونا) تؤمن بأن السعادة ستأتي في يومًا ما حتى وإن أوقفتها الحرب على حد تعبير الكاتب، ولكن مشكلة (أندري غوسكوف) جاء قبل الأوان، ومن هنا يبدأ التفكير والخوف من المستقبل، وما زاد من الطين بِلة، ظهور علامات الحمل عند (ناستيونا)، فهذا الأمر شكل هاجسًا وقلقًا وخوفا لديها، فكلما تريد أن تضع حلًا لهذا الأمر.
كان بطل (فالنتين) يرفض تسليم نفسه ويصور لها بأن حبل المشنقة سوف يلتف حول عنقه، أما أنتِ سوف يرأفون بحالكِ وبالطفل الذي في بطنكِ، وفي ذات الوقت يهددها بالانتحار، فكانت تصبر نفسها بأن الحال لن يبقى على ما هو لا بد أن يأتي يوم ويتغير.
يحاول الكاتب الإجابة على مفهوم السعادة في ظل الحرب، فكانت (ناستيونا) نموذجًا لهذه السعادة، كانت السعادة بالنسبة لـ(ناستيونا) تتمثل في ولادة طفل قبل الحرب، ولكنها لم ترزق بهذا الطفل، وفي أثناء الحرب تحققت هذه السعادة المنشودة، ولكنها كانت تخشى أقاويل الناس وسؤالهم التقليدي، «من أين لكِ هذا وزوجك يقاتل في الحرب؟»، وحين جوبهت بهذا السؤال، نسبت طفلها لغير زوجها، فبدأ الشك يدب في القرية، وعلموا بأن زوجها يختبئ في مكانا ما ولم يصدقوا بأقاويلها، وأخذوا يراقبونها، وحين شعرت بأن أمرها قد تم كشفه ألقت بنفسها وبطفل الذي في بطنها في النهر وماتت غرقًا، حتى لا أحد يعلم بمكان زوجها.
ولكن هنا يتبادر سؤال: «من هو المسؤول عن هذه النهاية المأساوية لـ(ناستيونا)؟»، بالتأكيد (أندري) زوجها، لأنها طلبت منه مرارًا وتكرارًا أن يضع حدا لهذه المعاناة والخروج إلى العالم، ولكنه يرفض، فتقول:
أندري، أليس من الأفضل أن ننهي هذه الاوضاع ونخرج إلى العالم؟
وبين سابقًا الأسباب التي كان يتحجج بها، وبقى خائفًا من الموت حتى بعد انتهاء الحرب، ولم يفكر بمصير الطفل الذي كان يحيى بأحشاء (ناستيونا).
وأخيرًا، بالرغم من صوت الكاتب كان يهيمن على الرواية في كل مكان، ولكنها الواقع كما هو في فترة الحرب العالمية الثانية، ولوحة مصغرة للحياة القروية التي يمتزج فيها الحب مع الوفاء بطريقة رائعة وفريدة، خالية من التنميق والإسهاب.