المعرفة والفكر الفلسفي

نظريتي الحب والمعرفة عند ابن حزم الأندلسي

يُعد ابن حزم الأندلسي (384-456هـ) واحد من أهم وأشهر العلماء والفلاسفة المسلمين، وإسهاماته لم تكن في العلوم الإسلامية فحسب، بل قدَّم العديد من الإسهامات للحضارة الإنسانية، فهو فقيه ومؤرخ وأديب وفيلسوف.

في أطروحته للدكتوراه بعنوان (ابن حزم الأندلسي وجهوده في البحث التاريخي والحضاري) يتناول د. (عبد الحليم عويس) جهود (ابن حزم) وإسهاماته في التاريخ. وفي خاتمة رسالته عن أثره في الحضارة الإنسانية، يذكر (عويس) رؤية (ابن حزم) للحب وتصوره عنه، فيقول:

قدم (ابن حزم) للحضارتين الإنسانية والإسلامية إلى جانب ما قدمه في ميدان المزج بين النظر المنطقي والنظر الديني وما قدمه في ميدان تاريخ المذاهب والأديان نظرية جديدة حول “الحب” من الوجهتين النفسية والاجتماعية.

وعلى الرغم من أنه ليس أول من كتب في الحب من أدباء العرب، فقد سبقه إلى ذلك (أبو بكر محمد بن داود الأصبهاني الظاهري) في كتابه (الزهرة)، و(ابن الجوزي) في كتابه (الحدائق)، و(إخوان الصفا) في بعض رسائلهم، و(ابن المقفع) في (الأدب الكبير والأدب الصغير) و(الجاحظ) في (أحدى رسائله في العشق والنساء) و(أبو إسحاق الحصري) في كتابه (المصون في سر الهوى المكنون)، إلا أن ابن حزم قد فاق كل هؤلاء في دقة منهجه وتسلسل أفكاره، وترابط بحثه ورقة حسه، وبعد غوصه وأتباعه منهجاً استبطانيًا واستقرائيًا، فجاءت رسالته (طوق الحمامة) حافلة بالملاحظات النفسية الدقيقة والخبرات الحية المعاشة والأمثلة التاريخية والنماذج البشرية المتنوعة، أو بتعبير آخر جاء ما قدمه في الطوق نظرية متكاملة عن الحب اعتمدت على عناصر البحث النفسي والاجتماعي:

١. تعتمد على التجربة الذاتية.

٢. وعلى ما تراه وتسمعه في الحياة الاجتماعية.

٣. وتقدم ذلك كله في صدق وجرأة بلا خوف أو نفاق.

٤. ثم تخرج من كل ذلك بنتائج تعممها على أعراض الحب المختلفة.

٥. وهي في ذلك أخيرا محاطة بسياج عن التصور الإسلامي الذي لا يرى في الحب العفيف إلا لوناً من الجهاد عاقبة شهيده الجنة.

فـ(ابن حزم) هذا الفقيه الظاهري الأصولي لم يجد أي تناقض بين ما قدمه في الطوق وما قدمه في المحلى أو الفصل، ولو أنه -بكل ما عرف من دين قد اكتشف على امتداد عمره- تناقضاً لأعلنه ورجع عنه.

ويأبى بعض المستشرقين أن ترجع نظرية الحب العذري إلى الطبيعة الإسلامية أو الفطرة العربية. فحين وقف (رينهارت دوزي) على قصة الحب الرقيقة لـ(ابن حزم)، و استكثرها على العرب وعلى المسلمين بالرغم من أن الرجل علماني لا يحب الكنيسة ولا يتعاطف مع رجال الدين، وقال إن هذا الغزل العف لا تعرفه الأخلاق العربية ولا الديانة الإسلامية، وأنه تحدر إلى (ابن حزم) إرثاً من أجداده الأول المسيحيين.

بيد أن كثيراً من المستشرقين من أمثال الراهب (ميغل آسين بلاثيوس)، و(إميلي غارسيا غوميز)، و(ليفي بروفنسال) وغيرهم، قد ردوا هذا الزعم وبينوا أصوله الإسلامية والعربية حتى في البيئة الجاهلية.

وبما أننا لا نميل إلى أن لـ(ابن حزم) أصولاً مسيحية بل نرى نسبته في فارس التي نسب إليها نفسه، ونسبه إليها أقرب تلامذته، فنحن بالتالي لا نرى ضرورة للبحث في قضية الأصول هذهِ، ونرى أن عقليته وتكوينه النفسي إنما هما إسلاميان عربيان لحمةً وسدى.

إن المحاولات التي سبقت ابن حزم في مجال الحب ليست سوى نظرات جريئة لم تستطع أن تشق لها رافداً في نهر الحضارة سواء منها ما أنتجه العقل العربي أو أنتجه العقل الأوروبي.

أما طوق الحمامة فقد كان كما يصفه بحق الدكتور (الطاهر مكي): “أروع كتاب درس الحب في العصر الوسيط في الشرق والغرب في العالمين الإسلامي والمسيحي”، وتتبع أطواره وحلل عناصره وجمع بين الفكرة الفلسفية والواقع التاريخي وواجه أدق قضاياه في وضوح وصراحة.

وكان (ابن حزم) الدارس الواقعي، في كل خطاه، أفكاره محلقة وقدماه على الأرض، ويصدر في نظريته عن تجربة عميقة ذات أبعاد إنسانية واسعة وعن إدراك ذكي لطبائع البشر.

ثم يتحدث المؤلف بعد ذلك عن إسهامات ابن حزم في نظرية المعرفة:

قدم (ابن حزم) نظرية للمعرفة تؤمن بأن طريق الوصول إلى الحقيقة يعتمد على أصول أربعة:

١. النصوص الدينية كما هي في القرآن والسنة.

٢. اللغة من حيث دلالتها الظاهرة المتعارف عليها عند أصحابها.

٣. الحس السليم وبديهة العقل.

٤. الاكتساب بالاختبار والنقل بالتواتر.

والحق أن النصوص الدينية واللغة باعتبارهما من طرق المعرفة المقبولة نقلاً بلا برهان، يعتمدان على سوابق فكرية مقبولة، وبالتالي فهما غير داخلين في نظرية المعرفة المطلقة.

والقسمان الضروريان للمعرفة عنده هما:

١. ما عرفه الإنسان ببديهية الفطرة وأولية العقل: مثل معرفة أن الكل أكثر من الجزء وأن من يولد قبلك فهو أكبر منك، وأن نصفي العدد مساويان لجميعه.

٢. ما عرفه الإنسان بالحواس السليمة عن طريق الاكتساب: بالاختبار والنقل بالتواتر، كمعرفة أن النار حارة وأن الثلج بارد والصبر مر والتمر حلو وما أشبه ذلك.

وفي كثير من تطبيقات (ابن حزم) لنظرية المعرفة فنراه يمزج بين هذين القسمين.

وقد انتهى (ابن حزم) إلى أنه ليس من الضروري للمعرفة الصحيحة أن يبدأ الإنسان بالشك لينتهي إلى اليقين كما ذهب إلى ذلك القديس (أوغسطينوس) قبله، وكما قال بذلك (أبو حامد الغزالي) و(ديكارت) من بعده، فهؤلاء يؤمنون بما سُمي بالاستدلال أو الاستقراء أو القياس، فما دامت الحواس سليمة والعقل سليماً، فإن الأوليات الفطرية والبديهات العقلية الظاهرة تكفل للإنسان منذ المراحل الأولى للبحث أن يبدأ من نقطة الثقة واليقين.


بقلم: خالد آل تركي
مراجعة: أحلام العمري
تحرير: أحمد بادغيش

خالد آل تركي

كاتب ومؤلف صدر لي: 1.النفس بين الفلسفة والعلم(دار ملهمون) 2.الطريق نحو الاستقرار النفسي والروحي(دار ملهمون) 3.التحليل النفسي بصورة مبسطة(دار الأمة العربية) ٤.المعادلة الثلاثية (الإنسان والدين والليبرالية) في ضوء الفلسفة والدين
زر الذهاب إلى الأعلى