التلميحات التاريخية والأدبية في رواية عزازل
تدور أحداث رواية (عزازل) للكاتب الروسي المعاصر (بوريس أكونين) في القرن التاسع عشر، وتحديداً في زمن الكاتب الكبير (دوستويفسكي)، ويبدو للقارئ من أول وهلة أن (بوريس أكونين) واقع تحت تأثير هذه الحقبة، ولكن نصه ملغومًا بالمفاجأة، سيتمكن القارئ من الحصول على بعض المعلومات التاريخية. يبلغ عمر بطل الرواية عشرون عامًا فقط، وهو موهوب جدًا، ويتضح أنه في المستقبل سيصبح محققًا ممتازًا ذا شخصية قوية وشجاعة. تبدأ الرواية بقصة انتحار شاب غريب الأطوار وكان وريث ثروة كبيرة جداً، عند التحقيق في هذه القضية، يكتشف (إراست) أن منظمة تقودها امرأة عجوز مجنونة تُدعى الليدي (إستر). هذه المرأة تريد السيطرة على العالم. أحيانا تبدو إيجابية جدًا فهي تعمل في الأعمال الخيرية، ومن ناحية أخرى، تبحث عن الأطفال الموهوبين وتعمل على تعليمهم، وتضع المعلومات التي تحتاجها في رؤوسهم. بعد ذلك، تشجع هؤلاء الأشخاص على تولي مناصب قيادية في بلدان مختلفة. وبالتالي، فإنها تريد الحصول على السلطة في يديها. أما منظمتها تحمل اسم “عزازِل”، وتعتقد تلك العجوز أنها من خلال تعليم أطفالها بشكل صحيح، فإنها تصنع منهم سلاحًا سيساعدها في الصراع على السلطة، ولا تتوانى أبدًا في ضرب عنق كل من يقف في طريقها.
حبكة الرواية مبنية بطريقة غير عادية، ويبدو دائمًا أن الحل قد اقترب بالفعل، حتى عندما يتم الكشف عن الحقائق، ولكنها تدور في دوامة الأحداث بشكل أكبر ، مما يثير أسئلة جديدة. سيضطر (إراست فاندورين) إلى المخاطرة بحياته أكثر من مرة بحثًا عن الحقيقة، الأمر الذي لن يمنعه من تجربة الحب وفقدانه، حتى نهاية القصة، تظل المؤامرة قائمة، وستكون نتيجة الأحداث غير متوقعة للغاية. جميع أبطال الرواية مستقلون في تفكيرهم، البعض منهم طائش والبعض الآخر طموح وغيرهم مفرطون في التفكير.
من خلال قراءتي لهذه الرواية المليئة بالأحداث والتلميحات الأدبية والتاريخية وجدت أن الكاتب يعرف جيدًا كيف يستغل الوقائع التاريخية ويعكسها في روايته، فقد تطرق إلى مواضيع عديدة، ومن ضمنها موضوع “العدميين” الذي ناقشه الكاتب (آيفان تورغينيف) في روايته (الآباء والبنون)، ولكنه في هذه الرواية صورهم الكاتب كمنظمة تقوم بأعمال إجرامية، فيقول:
وإن اولئك العدميين من مختلف البلدان يرفعون بشكل دوري تقاريرهم المشفرة بأرقام إلى مجلس الثوري المركزي عن الأعمال الإرهابية التي قاموا بتنفيذها!
وأيضا حاول الكاتب أن يقحم رواية (الشياطين) للكاتب الكبير (دوستويفسكي) بالأحداث التي تجري بالرواية، فيقول:
ما لم يتم استئصال السرطان في بداية ظهوره، فإن هؤلاء الرومانسيين سوف يفجرون لنا بعد حوالي ثلاثين سنة، وربما قبل ذلك، مثل تلك الثورة التي سوف تبدو معها مقصلة الثورة الفرنسية مجّرد مزحة لطيفة جدًا. لن يمنحونا فرصة لكي نهرم بهدوء، تذكّر كلمتي هذه. هل قرأت رواية (الشياطين) للسيد (دوستويفسكي)؟ عبثًا. لقد تنبأ بكل ذلك بشكل بليغ.
أما أسماء الشخصيات الرئيسية (إراست) و(ليزا) وردت في الرواية ليس من باب الصدفة، بل الكاتب كان مخططًا لها بعناية فائقة، فيقول على لسان (ليزا) زوجة البطل (إراست):
بيد أن تخيلاتي كانت تنهي على الدوام وفي كل مرة بطريقة مؤسفة ومأساوية. وكل هذا بسبب “(ليزا) التعسة”. (ليزا) و(إراست)، هل تذكر؟ كنتُ معجبة على الدوام بهذا الاسم – (إراست)، إلى اقصى درجة. فأتخيل لنفسي التالي: أنا مستلقية في تابوت شاحبة وفاتنة، مغمورة بورود جورية بيضاء، تارة أتعرق وتارة أموت بداء السل، أما أنتم فتنتحبون جميعكم.
وفعلا، في نهاية الرواية تحقق تخيلاتها وتموت بثوبها الابيض في ليلة عرسها. وهنا المقصود بـ(ليزا) و(إراست) رواية الكاتب (نيكولاي كارامزين) التي نشرت في عام ١٧٩٢م وبطلاها أيضًا يحملان نفس الاسم وهذا دليل قاطع على ما قلنا سابقًا الرواية مليئة بالتلميحات الأدبية والتاريخية، وليس هذا فقط، بل حتى الإشارات التاريخية حاضرة في هذه الرواية: رجل يُدعى (غبهاردت) – هو حاول في نهاية الرواية إجراء تجربة على بطل الرواية (إراست) وهو نفس اسم احد المتهمين الرئيسيين بإجراء تجارب على الناس خلال الحرب العالمية الثانية، وهو من الشخصيات النازية المعروفة آنذاك.
وأخيرًا، لابد أن أعترف أن المعرفة العميقة لتاريخ روسيا والاطلاع الهائل لهذا الكاتب جعلته يعكس صورة واقعية لحياة روسيا في القرن التاسع عشر، والسؤال الذي ينبغي أن يطرح هنا، كيف استطاع هذا الكاتب ان يصف الأحداث بدقةٍ متناهية؟ وهذا الامر يُحسب للكاتب (بوريس أكونين)، ويذكرني بقراءتي لرواية (لاوروس) للكاتب (يفغيني فودولازكين) حين يصف الفترة التي انتشر فيها الطاعون وكيف كان دقيقًا في وصف هذه الأحداث، ولكن مشكلة بطل (أكونين) في هذه الرواية لا يبحث عن أسباب الجريمة ومعرفة القاتل فحسب، بل يبحث عن إثبات ذاته والمجد وهذا الشعور ظل يرافقه حتى نهاية الرواية، لذلك الكاتب كان صوته طاغيًا حول هذا الأمر، فيقول:
لقد سخر القدر بقسوة من (فاندورين)، أغواه المجد ودفعه بعيدًا عن المسار الرئيسي للأحداث إلى طريق فرعي ليس ذا شأن…
إذن، يلوح في الافق بأن أزمة إثبات الذات لدى الشباب موجودة في كل عصر وزمان، أما بطل (فودولازكين) يعرف علته ولا يحتاج إلى إثبات ذاتهُ ولا يبحث عن المجد.
بقلم: حسين علي خضير
مراجعة وتدقيق: أحمد بادغيش