أهمية الأدب والكتابة لدى الجاحظ
"يا بنّي أصلحوا من ألسنتكم، فإن الرجل لتنوبه النائبة فيستعير الدابة والثياب، ولا يقدر أن يستعير اللسان"
يعد (الجاحظ)، من أهم الكتاب في القرون الوسطى الاسلامية، وممن أثر تأثيرا عميقاً في الثقافة العربية من خلال مؤلفات في شتى مناهل المعرفة، من أشهرها (كتاب الحيوان) و(البخلاء).
في رسالة حملت “صناعة القواد” [نشرت بتحقيق الدكتور (عبدالسلام هارون)] متضمنة في الجزء الأول من مجموع (رسائل الجاحظ) المنشورة، يذكر (عبده زيدان علي) أستاذ علم اللغة المساعد بجامعة المنصورة، تعريف (ابن جني) للغة “أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم”، في مستهل دراسته الدلالية عن رسالة “صناعة القواد” لـ(الجاحظ).[١]
ويستطرد قائلًا:
ولأن اللغة متباينة وهو واضح بهذه الرسالة حيث الاختلاف باستخدام الألفاظ، فرأينا أنهم يعبرون عن موضوعين وهما؛ المعركة، والغزل.
فكل صاحب حرفة، عبر عنهما من وجهة نظره الشخصية. وفي هذا براعة لغوية من استخدام أساليب البلاغية الآتية:
- تشبيه الجمع، إذ المشبه واحد والمشبه به متتعدد.
والمشبه هو المعركة، والمشبه به القصة التي يرويها كل شخصية بحسب بيئتها التي أتت منها، فسائس الخيل يشبه مكان المعركة باصطبلات الخيل، والخياط شبه المكان بسوق الثياب.
- أساليب القصر والنفي والاستثناء، يلحق كل تشبيه من قصر واستثناء، قصر سقوط المبضع على أكحل الرجل، والخياط خصص سقوط الابرة على رأس رجل.
- الطباق في لفطتي “لقيناهم وتركناهم” يعطي الرسالة روح حركية جميلة في إجادة واضحة لإبراز ثنائية “لقيناهم، تركناهم” تلاحظ في كل رواية من روايات الأحد عشر شخصية
وغيرها من الأساليب التي ذكرها الأستاذ (عبده زيدان).
وكانت مناسبتها بعد معركة العمورية المشهورة، التي انتصر بها المسلمون بقيادة الخليفة (المعتصم بالله) على الروم سنة عام ٢٢٣هـ، الموافق لعام ٨٣٨م.
يعتبر أسلوب تكرار رواية الحدث من وجهات نظر مختلفة، من أشهر الأساليب السردية في القصص، وما تتميز به الرسالة أن الحدث يختلف فقط على مستوى اللغة.
اخترت ثلاث شخصيات وهم [السائس، والخياط، والفراش] من أحد عشر شخصية.
من رسالة صناعة القواد
قال (أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ):
دخلت على أمير المؤمنين (المعتصم بالله) فقلت له: “يا أمير المؤمنين، في اللسان عشر خصال: أداة يظهر بها البيان، وشاهد يخبر عن الضمير، وحاكم يفصل بين الخطاب، وناطق يُرَدُ به الجواب، وشافع تُدرك به الحاجة، وواصف تُعرف به الأشياء، وواعظ يُعرف به القبيح، ومُعزُّ يرد به الأحزان، وخاصة يزهى بالصنيعة ومُلْهٍ يونق الأسماع”.
وقال (الحسن البصري): “إن الله تعالى رفع درجة اللسان، فليس من الأعضاء شئ ينطق بذكرِه غيره”.
وقال بعض العلماء: “أفضل شئ للرجل عقلٌ يُولَد معه، فإنْ فاته ذلك فمالٌ يُعظَّم به، فإنْ فاته ذلك فعلمُ يعيشُ به، فإن فاته ذلك فموتٌ يجتثُّ أصله”.
وقال (خالد بن صفوان): “ما الإنسان لولا اللسان إلا ضالة، أو بهيمة مرسلة، أو صورة ممثلة”.
وذكر الصمت والنطق عند (الأحنف) فقال رجلٌ: “الصَّمت أفضل و أحمد”، فقال: “صاحب الصمت لا يتعداه نفعه، وصاحب المنطق ينتفع به غيره، والمنطق الصواب أفضل”.
وروى عن (النبي) صلى الله عليه وسلم أنه قال: “رحم الله امرأ أصلح من لسانِه”.
قال:
وسمع (عمر بن عبدالعزيز) رضي الله عنه رجلاً يتكلم فأبلغَ في حاجته، فقال (عمر): “هذا والله السَّحُر الحلال”.
وقال (مسلمة بن عبدالملك): “إن الرجل ليسألني الحاجة فتستجيبُ نفسي له بها، فإذا لحنَ انصرفت نفسي عنها”.
وتقدم رجلٌ إلى (زياد)، فقال: “أصلح الله الأمير، إن أبينا هلك، و إن أخونا غصبنا ميراثه”. فقال (زياد): “الذي ضيعت من لسانك أكثر مما ضيعت من مالك”.
وقال بعض الحكماء لأولاده: “يا بنّي أصلحوا من ألسنتكم، فإن الرجل لتنوبه النائبة فيستعير الدابة والثياب، ولا يقدر أن يستعير اللسان”.
وقال (شبيب بن شبيبة) ورأى رجلاً يتكلَّم فأساء القول، فقال: “يا ابن أخي، الأدب الصالح خير من المالِ المضاعف”.
ثم يستشهد (الجاحظ) بقول الشاعر:
وكائن ترى من صامتٍ لك مُعجِبٍ
زيادتُه أو نقصُه في التكلُّمِ
لسانٌ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤادٌه
فلم يبقَ إلا صورة اللحم والدًّمِ
يردف (الجاحظ) بعد ذلك استشهاداته، فيقول:
فخذ يا أمير المؤمنين أولادك بأن يتعلموا من كل الأدب، فإَّنك إن أفردتهم بشيءٍ واحد ثم سُئلوا عن غيرهِ لم يحسنوه.
وذلك أني لقيت حِزامًا حين قدِم أمير المؤمنين من بلاد الروم، فسألته عن الحرب كيف كانت هناك، فقال: “لقيناهم في مقدار صحن من الإصطبل، فما كان بقدرِ مايحس الرجل دابته حتى تركناهم في أضيق من ممرغة[٢]. وقتلناهم فجعلناهم كأنهم أنابير سرجين[٣]، فلو طرحت روثة ما سقطت إلا على ذنب دابةً“.
وعمل أبياتًا في الغزل، فكانت:
إن يهدم الصدّ من جسمي معالفه .. فإن قلبي بقتّ الوجد معمور
إنّي امرؤ في وثاق الحبّ يكبحه .. لجام هجر على الأسقام معذور
علّل بجلّ نبيل من وصالك أو .. حسن الرّقاد فإنّ النّوم مأسور
أصاب حبل شكال الوصل حين بدا .. ومبضع الصدّ في كفيه مشهور
لبست برقع هجر بعد ذلك في .. إصطبل ودّ فروث الحبّ منثور
قال:
وسألت (جعفرا الخياط) عن مثل ذلك، فقال:
لقيناهم في مقدار سوق الخلقان[٤]، فما كان بقدر ما يخيط الرجل درزا حتّى قتلناهم وتركناهم في أضيق من جربّان، فلو طرحت إبرة ما سقطت إلّا على رأس رجل.
وعمل أبياتًا في الغزل، فكانت:
فتقت بالهجر دروز[٥] الهوى .. إذ وخزتني إبرة الصّدّ
فالقلب من ضيق سراويله .. يعثر في بايكة[٦] الجهد
جشّمتني يا طيلسان[٧] النوى .. منك على شوزكتي وجدي
أزرار عيني فيك موصلة .. بعروة الدمع على خدّي
يا كستبان[٨] القلب يا زيقه .. عذّبني التّذكار بالوعد
قد قص ما يعهد من وصله .. مقراض بين مرهف الحدّ
يا حمزة النّفس ويا ذيلها .. مالي من وصلك من بدّ
ويا جربّان سروري ويا .. جيب حياتي حلت عن عهدي
قال:
وسألت (إسحاق بن إبراهيم) عن مثل ذلك- وكان زرّاعا- فقال:
“لقيناهم في مقدار جريبين من الأرض، فما كان بقدر ما يسقى الرجل مشارة حتّى قتلناهم، فتركناهم في أضيق من باب، وكأنّهم أنابير سنبل، فلو طرح فدّان ما سقط إلّا على ظهر رجل“.
وعمل أبياتا في الغزل، فكانت:
زرعت هواه في كراب من الصّفا .. وأسقيته ماء الدوام على العهد
وسرجنته بالوصل لم آل جاهدا .. ليحرزه السّرجين من آفة الصّدّ
فلمّا تعالى النّبت واخضرّ يانعا .. جرى يرقان البين في سنبل الودّ
قال:
وسألت (عبد الله بن عبد الصمد بن أبي داود) عن مثل ذلك- وكان مؤدّبا- فقال:
لقيناهم في مقدار صحن الكتّاب[٩]، فما كان بقدر ما يقرأ الصبيّ إمامه حتى ألجأناهم إلى أضيق من رقم فقتلناهم، فلو سقطت دواة ما وقعت إلّا في حجر صبيّ.
وعمل أبياتا في الغزل فكانت:
قد أمات الهجران صبيان قلبي .. ففؤادي معذّب في خبال
كسر البين لوح كبدي فما أطـ .. ـمع ممن هويته في وصال
رفع الرقم من حياتي وقد أطـ .. ـلق مولاي حبله من حبالي
مشق الحبّ في فؤادي لوحيـ .. ـن فاغرى جوانحي بالسلال
لاق قلبي بنانه فمداد الـ .. ـعين من هجر مالكي في انهمال
كسرف البين سوّد الوجه ومن وصـ .. ـلي فقلبي بالبين في إشعال
قال:
وسألت- أطال الله بقاءك- (محمد بن داود الطوسيّ) عن مثل ذلك- وكان فرّاشا- فقال:
لقيناهم في مقدار صحن بساط، فما كان إلا بقدر ما يفرش الرجل بيتا. حتى تركناهم في أضيق من منصّة فقتلناهم، فلو سقطت مخدّة ما وقعت إلّا على رأس رجل.
ثم عمل أبياتا في الغزل فكانت:
كسح الهجر ساحة الوصل لمّا .. غبّر البين في وجوه الصّفاء
وجرى البين في مرافق ريش .. هي مذخورة ليوم اللقاء
فرش الهجر في بيوت هموم .. تحت رأسي وسادة البرحاء
حين هيّأت بيت خيش من الوصـ .. ـل لأبوابه ستور البهاء
فرش البحر لي بيوت مسوح … متّكاها مطارح الحصباء
رقّ للصبّ من براغيث وجد … تعتري جلده صباح مساء
قال:
فضحك (المعتصم) حتى استلقى، ثم دعا مؤدّب ولده فأمره أن يأخذهم بتعليم جميع العلوم.
المصادر والهوامش:
[١] رسالة الجاحظ “صناعة القواد” دراسة دلالية جامعة المنصورة مجلة كلية الاداب العدد الثالث والستون ٢٠١٨
[٢] ممرغة: التمرغ: التقلب في التراب، مرغ الإبل: متمرغها في التراب
[٣] أنابير: أهراء الطعام السراجين: كلمة فارسية معربة ومعناها الزبل
[٤] الخلقان: الثياب التي بليت من الاستعمال
[٥] درز: أي تمزيق الثوب
[٦] بايكه: لفظ عامي يطلق على مايوضع فيه تكة السراويل
[٧] طيلسان: شال أو وشاح أو كساء يضعه العلماء على الكتف
[٨] كستبان: كلمة فارسية وتعني القمع الذي يضعه الخياط اجتنابًا للإبرة
[٩] صحن المسجد: ساحة وسط المسجد
بقلم: متعب الزايدي
تحرير: أحمد بادغيش