الإنتاج الفني والسردي

محمد عبدالوهاب يتحدث عن أثر سيد درويش في الفن العربي

في تدوينة سابقة سبق أن تحدثنا عن الدور الثوري الذي لعبه سيد درويش في إحياء الموسيقى العربية المعاصرة في القرن المنصرم. يتحدث الموسيقار الشهير محمد عبدالوهاب في كتابه “رحلتي”  عن (سيد درويش) وأدواره في الفن العربي وأفضاله، حيث يقول:

يخطئ من يتصور أن سيد درويش أغنية ولحن .. إن سيد درويش فكر .. تطور .. ثورة .. فسيد درويش هو الذي جعلني أستمتع عند سماعي الغناء بحسي وعقلي .. بعد أن كنت قبله أستمتع بحسي فقط .. إنه فكرة العصر التي لولاها لما لحن الملحنون بالأسلوب الذي يلحنون به الآن، ولا ننسى بأنه أول من أدخل اللهجة المسرحية السليمة الحقيقية للأعمال المسرحية.

من أفضال الشيخ سيد درويش على الألحان العربية أن أدخل الأسلوب التعبيري في ألحانه حتى في الأدوار التقليدية الكلاسيكية التي لحنها .. وبظهر هذا جيدًا في أدواره الثلاثة التي لحنها في المسارح الغنائية، وهذا يدل على أنه بفطرته تعبيري، وبطبيعته مسرحي .. والمسرح هو المكان الطبيعي للتعبير.

ومن أفضاله أيضًا أنه كسر المقامات المتجاورة في لحنه .. فقبل الشيخ سيد كان الملحن يتحسس المقامات أي يحوم حول مقامات النغمة مقامًا مقامًا، ولا يجرؤ على أن يقفز من مقام إلى مقام على مسافة بعيدة .. خوفًا من الضياع أو من النشاز، وإذا قفز، فإنه يقفز في حدود المقامات المعدة لها أذن المستمع .. كالثالث أو الخامس أو جوام النغمة مثلًا .. فجاء الشيخ سيد وقفز قفزات غير موجودة في أذن المستمع ولا هو مهيأ لها وكأنه بذلك يريد أن (يلطش) المستمع .. ويقول له تنبه وتمتع لما أسمعك إياه، ويظهر هذا جيدًا في الآهات الموجودة في دور (ضيعت مستقبل حياتي).

وكان الملحنون قبل سيد درويش لا يفكرون كثيرًا في التعبير باللحن عن معنى الكلمة .. فربما تسمع لحنًا حزينًا على كلام بهجة وفرح .. وربما تسمع لحنًا مفرحًا على كلام قاتم وحزين، لأن الغرض كان الطرب وإبراز مواهب المؤدي من قدرات صوتية، وكان الغناء هو متعة حسية فطرية قبل أن يكون متعة عقلية .. متعة حسية وطرب بالفطرة .. وجمال لحني.

سيد درويش له أفضال كثير على كل ألوان الغناء من توشيح ودور وأغنية خفيفة وأغنية شعبية ومسرح .. وكان مفهوم الدور أو الغناء أنه تكملة للسهرة الحلوة من شراب ومزة.

وكان الدور يجب أن يكون فيه البهجة والظرف وكفى .. فنجد مثلًا حوار بين المغني والمرددين مثل ؛ “سيدي يا ملك .. عيني يا ملك”، ومثل ؛ “زعلان ليه .. كده كده زعلان .. والعجب .. العجب” وكل هذه الجمل الملحنة بكل الهيصة والرتم الراقص حتى لو كان الكلام حزينًا مثل زعلان ليه.

وجاء سيد درويش وخلع عن الدور نوعًا من الدراما .. والدراما شجن .. وألم .. وشوقي قال : “أنبغ ما في الحياة الألم” .. والألم جدية ومعاناة؛ ولذلك نسمع أدوار الشيخ سيد درويش مثل “أنا هويت” و”ضيعت مستقبل حياتي” .. فتحس بالجدية والتفكير والتعبير عن الكلمة بما يتفق ومعنى الكلام بالموسيقى والمعاناة ثم نجده في التواشيح أيضًا فذًا ومبدعًا.

لقد ابتكر ضربًا وإيقاعًا جديدًا لم يعرف من قبل، وهذا الإيقاع أسماه (فكرتي) وهو عبارة عن السماعي الثقيل زائد بلانشاز .. أي أن السماعي الثقيل عشرة ٨ من ٨ وفكرتي ١١ من ٨ ولحن عليه كلامًا مطلعه “حبي دعاني”، وفي الأغنية الشعبية نجده فذًا فلا يوجد لحن له لم يغنه الشعب، وفي المسرح وجد الأرض التي يريدها . والتي يحبها .. وهو الأسلوب التعبيري وقد تألق فيه وكان رائدًا له.

أحمد بادغيش

مدوّن، مهتم بالأدب والفلسفة والفنون.
زر الذهاب إلى الأعلى