في عام ١٩١٢م كانت (آنّا أخماتوفا) في الثالثة والعشرين من عمرها. امرأة جميلة، مفعمة بالأنوثة والبراءة، وشاعرة رقيقة ذات موهبة عظيمة، وتحب النزول في وقت متأخر من الليل إلى قبو مقهى “الكلب الضّال” في العاصمة بطرسبورغ، وعلى كتفيها شال، وفي جيدها عقد من اللؤلؤ .
وكانت قصائدها تعكس عمق شخصيتها، وتنطوي على حقائق نفسية ووجدانية قوية، تثير رغبات حسية دفينة وموجعة، عبر شكل شعري متألق، بوسائل لغوية بسيطة. كانت الأحلام ما تزال ممكنة التحقيق، ولم يدر بخلدها في ذلك الحين، أن المستقبل محمّل بالمصائب.
ولدت (آنّا اخماتوفا) في ٢٣ يونيو عام ١٨٨٩م في إحدى ضواحي مدينة أوديسا. وكتبت في سيرتها الذاتية تقول:
ولدت في العام ذاته الذي ولد فيه (تشارلي شابلن) وصدرت رواية (تولستوي) (كريتزر سوناتا) ، وبُني برج إيفل .
كان والدها (أندريه غورينكو) مهندسًا بحريًا متقاعدًا، ووالدتها (اينّا ستوغوفا) سليلة عائلة تترية عريقة، وينتميان إلى الطبقة العليا في المجتمع. ولكن العائلة انتقلت الى العاصمة بطرسبورغ بعد سنة واحدة من ولادتها. قضت طفولتها ومراهقتها في بطرسبورغ وكييف، وتعلمت الفرنسية في سن مبكرة، وكتبت أولى قصائدها عام ١٩٠٤م. درست اللاتينية والتاريخ والقانون.
وفي عام ١٩١٠م تزوجت الشاعر (نيقولاي غوميلوف) [١٩٩٦م-١٩٢١م]، وسافرا الى باريس لقضاء شهرالعسل.، وقامت برحلة أخرى إلى باريس عام ١٩١١م، وزارت إيطاليا عام ١٩١٢م. وقد التقت خلال رحلتيها إلى باريس بالفنان والنحات الإيطالي (أميديو موديلياني) الذي خلدها في ١٦ لوحة فنية رائعة بعضها بالألوان وأخرى تخطيطية، وكانت تلك فترة ذهبية في حياتها.
وعندما بدأت بنشر اعمالها عام ١٩١١م اختارت الشاعرة لنفسها (أخماتوفا) كاسم فني – بدلاً من لقب والدها (غورينكو) – اعتقادًا منها أن أحد أسلافها (أحمد خان) كان اميراً تترياً ينتمي إلى سلالة (جنكيز خان).
في عام ١٩١٢م أنجبت ابنها (ليف)، ونشرت أول ديوان لها بعنوان (المساء)، وسرعان ما ذاعت شهرتها في الأوساط الأدبية الروسية. وقال النقّاد الروس عنها، أن موهبة جديدة قد ظهرت في الشعر الروسي. وقد تعززت مكانتها الأدبية بصدور عدة دواوين شعرية لها في السنوات اللاحقة.
لم تكن الحياة تنبأ بعد بأية مصائب؛ كتبت الشعر، وسهرت الليالي، وشربت الشمبانيا، ولكن الحرب الأهلية التي رافقت ثورة أكتوبر، وضعت حدًا لكل هذا. اللوحات ضاعت أو احترقت خلال الحرب الأهلية. ولم تبق لدى الشاعرة سوى لوحة واحدة فقط، كانت تعلقها على أحد الجدران في غرفة نومها حتى آخر يوم في حياتها.
وتقول (أخماتوفا) إن (موديلياني) كان يعيش في فقر مدقع، حتى أنه لم يكن قادرًا، على دعوتها إلى أحد المقاهي ودفع ثمن فنجانين من القهوة. ومع ذلك فقد كانت السعادة تغمرها بصحبة العبقري الإيطالي الوسيم الذي توفي بعد ذلك بسنوات قليلة، وترك ندبة لا تندمل في قلب (اخماتوفا). ففي أيامها الأخيرة كتبت في مذكراتها:
كانت حياة (موديلياني) قصيرة، وحياتي طويلة.
في أغسطس عام ١٩١٨م، انفصلت الشاعرة عن زوجها الشاعر (نيقولاي غوميلوف)، أبرز أعضاء “ورشة الشعراء” الشهيرة، ومؤسس مدرسة “الأكميزم” أو “الذروة الروحية” في الأدب الروسي، والذي أعدم في عام ١٩٢١م بتهمة الانضمام إلى تنظيم سري للضباط “البيض”، فقد كان (غوميلوف) ضابطاً لامعاً في العهد القيصري.
وفي ديسمبر من العام ذاته تزوجت (فلاديمير شيليكو)، العالم المتخصص في حضارة وادي الرافدين، وأول مترجم لـ(ملحمة جلجامش) إلى اللغة الروسية. ولكن هذا الزواج لم يدم سوى ثلاث سنوات، فقد كان (شيليكو) يضيّق الخناق عليها، ويقيّد حريتها الشخصية.
وفي عام ١٩٢٢م تزوجت المؤرخ (نيقولاي بونين). وكان زواجًا موفقًا، حتى اعتقل في عام ١٩٣٨م وحكم عليه بالسجن خمس عشرة سنة، وقضى نحبه من الإنهاك الجسدي في أحد معسكرات العمل الإجباري الشاق .. وكان ابن الشاعرة الوحيد، (ليف غوميلوف) سجينًا أيضًا في هذا الوقت.
خيّم الظلام والوحدة واليأس على حياتها، وظهر في شعرها “المحظور من النشر والتداول منذ منتصف العشرينيات”، صرخات الألم والشعور بالوحدة. وعاشت دون أن يلوح لها في الأفق بارقة أمل. شعرها في هذه الفترة كان يعبرعن الحب الأنثوي المأساوي، حيث تمتزج العاطفة والحزن بالأمل. قوة شخصية الشاعرة وثباتها، سمحت لها بالبقاء على قيد الحياة في سنوات القمع الرهيبة، رغم فقدان زوجها واعتقال ابنها، وحظر نشر قصائدها.
قداس جنائزي:
في عام ١٩٣٥م بدأت بكتابة قصيدتها الطويلة الرائعة “قداس جنائزي”، وهي قصيدة سيرة ذاتية وتعكس معاناتها الداخلية. هنا تجلت عظمة (أخماتوفا) كشاعرة مبدعة. هذه القصيدة، التي قضت الشاعرة حوالي عشر سنوات في كتابتها، هي دليل على نضجها كشاعرة.
كانت تعيش في فقر مدقع، تعاني من الجوع والبرد، وتشعر بالنفور من الواقع الكئيب، الذي كان يعج بالمخبرين السريين، لكنها لم تفقد احترام الذات. في هذه الظروف الصعبة كانت تكافح ضد الواقع المرعب بسلاح الشعر:
وقفت آنذاك مع شعبي وتقاسمت معه محنتي.
لم تحاول الهجرة إلى إحدى الدول الغربية، كما فعل العديد من الأدباء الروس المعروفين من أصدقائها، وظلت في الإتحاد السوفيتي، وأحرقت جزءًا كبيرًا من أرشيفها، الذي كان الاحتفاظ به يعرض حياتها للخطر، لكن الناس حفظوا أشعارها عن ظهر قلب، وكانوا يتذكرون صوتها وقصائدها.
في عام ١٩٤٥م زار الفيلسوف والمفكر والدبلوماسي البريطاني السير (أشعيا برلين) [١٩٠٩م-١٩٩٧م] الشاعرة في مسكنها بمدينة لينينغراد، عندما كان سكرتيرًا أول في سفارة بلاده لدى موسكو. وخلال المحادثة الطويلة التي استغرقت عدة ساعات، تحدثت (اخماتوفا) خلالها عن حزنها وعدم موافقتها على النظام القائم، ودفعت ثمنًا غاليًا لحديثها مع “جاسوس أجنبي” حسب زعم السلطة، حيث اعتقل ابنها مرة أخرى، وحكم عليه بعشر سنوات سجن مع الأشغال الشاقة. وتم وضع الشاعرة تحت مراقبة الشرطة السرية وعندما كانت تطل من الشباك الوحيد لشقتها المؤلفة من غرفة واحدة، ترى عدة مخبرين سريين جالسين على مصطبة مقابل مدخل العمارة لمراقبتها. ولكنها لم تستسلم لليأس والقنوط.
وقد كتب (آشعيا برلين) لاحقًا عن لقائه بالشاعرة العظيمة، وكيف إنه لاحظ بإعجاب شديد صمودها وانشغالها بعملها الإبداعي، ووصفها بأنها “ملكة ذات طابع مأساوي”.
كتبت (أخماتوفا) قصيدة ” قداس جنائزي” بلغة مجازية للغاية. بدت وكأنها أجزاء انتزعتها من نفسها من أجل إدخالها في نص القصيدة. وقد واجهت في هذه الفترة أشد المحن. حيث فقدت زوجها، وكان ابنها ما يزال سجينًا. وتحملت كل أعباء حياتها بكرامة، ولم تجد العزاء سوى في الأدب.
في مقدمة قصيدة “قدّاس جنائزي” كتبت (أخماتوفا) عما دفعتها إلى كتابتها:
طوال سبعة عشر شهراً في زمن (يزوف الرهيب) [الذي كان وزيراً للامن والمخابرات بين عامي ١٩٣٧م-١٩٣٨م]، كنت أقف في طوابير طويلة من أجل السماح لي بزيارة السجن في لينينغراد. امرأة مزرقة الشفاه من البرد، لم تسمع عني من قبل قط، خرجت من حالة الذهول التي كنا فيها جميعاً، وسألتني همسًا:
– هل يمكنك الكتابة عن هذا؟
أجبت: نعم.
حينها ارتسمت شبه ابتسامة على هذا الذي كان يومًا ما وجهًا.
بعد سنوات من التضييق والصمت والتجاهل ، نشرت قصيدة ” قداس جنائزي” في ميونيخ عام ١٩٦٣م، في كتاب صدر عن دار نشر (فيرلاج) الألمانية.
بعد أسابيع قليلة من النشر تحولت القصيدة إلى صرخة حزن ليس فقط للشاعرة نفسها، ولكن أيضًا لملايين النساء الروسيات اللائي عشن كل أهوال النظام الذي حطم حياتهن، وحياة أزواجهن وأبنائهن .
اليوم لدي الكثير لأفعله؛ يجب قتل الذاكرة حتى النهاية، ويجب أن نجعل الروح لا تأبه، ويجب أن نتعلم كيف نعيش مرة أخرى.
جائزة جمعية الكتّاب الأوروبيين والدكتوراه في (أكسفورد):
في أواخر ديسمبر ١٩٦٤م أقيم احتفال مهيب في مدينة تاورمينا الواقعة بجزيرة صقلية الإيطالية، تم خلاله تقليد الشاعرة جائزة جمعية الكتّاب الأوروبيين في مجال الشعر، بحضور جمع كبير من الكتّاب والشعراء من معظم البلدان الأوروبية. ألقت (اخماتوفا) مختارات من قصائدها، التي قوبلت بحماس عظيم، ونهض الحضور وقوفا لتحيتها، رغم أن معظمهم – باستثناء الوفد السوفيتي – لم يكن يعرف اللغة الروسية – وكان ذلك تحية لملكة الشعر وللأدب الروسي العظيم.
وفي الخامس من يونيو ١٩٦٥م منحت جامعة أكسفورد شهادة الدكتوراه الفخرية في الأدب لـ(آنا أخماتوفا). ولأول مرة في تاريخ الجامعة، كسر البريطانيون التقليد الأكاديمي الراسخ؛ لم تصعد (آنا أخماتوفا) الدرج الرخامي لاستلام شهادتها من يد رئيس الجامعة، على النحو المعتاد، بل إن رئيس الجامعة هو الذي نزل إليها. كما أن (اخماتوفا) اعتذرت عن وضع القبعة التقليدية على رأسها لأنها – كما قالت – لا تلائمها، ووافق رئيس الجامعة على استثناء ملكة الشعر من هذا التقليد الراسخ أيضًا. في اليوم التالي كتبت الصحف البريطانية:
إن جامعة اكسفورد منحت شهادة الدكتوراه الفخرية إلى أعظم الشعراء الروس المعاصرين – (آنا أخماتوفا) البالغة من العمر ٧٦ عامًا، والتي يعكس شعرها ومصيرها، مصير الشعب الروسي.
توفيت (اخماتوفا) بنوبة قلبية في مصحة بالقرب من موسكو في الخامس من مارس ١٩٦٦م، لكن عملها استمر في العيش والقتال.
(أخماتوفا) وجائزة نوبل في الأدب:
دأبت أكاديمية العلوم السويدية – مانحة جوائز نوبل – على الحفاظ على سرية وثائقها الأرشيفية لمدة خمسين عامًا. وكما يتضح من الوثائق المنشورة في يناير عام ٢٠١٧م أن (اخماتوفا) كانت ضمن لائحة المرشين لنيل جائزة نوبل في الأدب عام ١٩٦٥م.
وجاء في تلك الوثائق أن رئيس لجنة نوبل (أندرس أوسترلوند) قال خلال تقييم قصائد (أخماتوفا):
لقد تأثرت كثيرًا بالإلهام القوي للشاعرة، وتأثرت أكثر لمصيرها وإرغامها على الصمت الإجباري لسنوات طويلة.
وقد ذهبت الجائزة في ذلك العام إلى مرشح الدولة السوفيتية (ميخائيل شولوخوف)، بعد أن حشّد الاتحاد السوفيتي تأييد الأوساط الأكاديمية، والفائزين بجائزة نوبل من الكتّاب والشعراء اليساريين، ومارس ضغوطًا دبلوماسية واقتصادية على السويد. وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن (شولوخوف) لم يكن يستحق الجائزة.
كما تشير وثائق الأكاديمية السويدية التي كشف النقاب عنها عام ٢٠١٧م أن (اخماتوفا) كانت من أبرز المرشحين لنيل الجائزة عام ١٩٦٦م. ولكن وفاة الشاعرة في مارس من ذلك العام أدى إلى صرف النظر عن ترشيحها.
ذكرى (أخماتوفا):
يتمتع إبداع (اخماتوفا) بتبجيل عظيم في بلادها، وفي العالم الغربي. وقد خلدت روسيا ذكرى الشاعرة بطرق شتى. فهناك متحف (اخماتوفا) في بطرسبورغ، وتمثال أو جدارية لها في كل مدينة روسية عاشت فيها ولو لبضع سنوات، منها ثلاثة تماثيل في مدينة بطرسبورغ وتمثال في موسكو. وفي كل مدينة من تلك المدن شارع يحمل اسمها.
كما أطلق الفلكيون الروس اسمها على كويكب اكتشف عام ١٩٨٢م، وعلى فوهة بركان في كوكب الزهرة. إضافة إلى عدد من المكتبات العامة وحتى بعض البواخر السياحية. وثمة العديد من لوحات البورتريه للشاعرة رسمها كبار الفنانين الروس، وأفلام سينمائية تصور حياتها المليئة بالأحداث الدراماتيكية.
كما حولت قصائدها الى أوبريتات وباليهات وأغان يصعب حصرها. وكتبت عنها عشرات الكتب والأطروحات العلمية. وتحتفل روسيا في ٢٣ يونيو من كل عام بذكرى ميلاد الشاعرة حيث تقام فعاليات ثقافية جماهيرية، يلقي خلالها أشهر الممثلين والممثلات الروس قصائدها الوجدانية التي تهز المشاعر بصورها الفنية المدهشة.
بقلم: د. جودت هوشيار تحرير ومراجعة: أحمد بادغيش