الإنتاج الفني والسردي

النور يسطع في الظلام .. عن مسرحية (تولستوي) التي كتب (زفايغ) نهايتها

«أريد أن أخدمه فحسب»، إذاً هي مجرد خدمة «أدبيّة» يُقدمها (زفايغ) لـ(تولستوي).

في عام ١٨٩٠م كتب (تولستوي) مسرحية درامية بِعنوان “والنور يسطع في الظلام”، ولم يُكملها، أو لم يرد أن يكملها. 

حتى قام الكاتب الألمانيّ (ستيفان زفايغ) في عام ١٩٢٧م بكتابة مشهد أخير لها [أو تعقيب، كما أسماه]، وأرفقه في كتابه (ساعات القدر في تاريخ البشرية).

أكد (زفايغ) في مُستهل تمهيده للمسرحية أن (تولستوي) كتبها “لتكون تبريرًا ذاتيًا، ولتكون في الوقتِ ذاته اعتذارًا لزوجته”، ويردف أنها ليست إلا ترجمة درامية لحياة (تولستوي) الحقيقية، خطّ تولستوي سطورها في سبيل أن “يجد حلاً لمُشكلة حياته عن طريق الأدب، ولكنه لم يجد الجرأة، ولا الصيغة الخاصة بالعزم والقرار، لا في عمله ولا في حياته. وبسببٍ من استسلام الإرادة فقد بقيت هذه القطعة [المسرحية] مُجتزأة”.


إذاً كتب (تولستوي) مسرحيتَه ثم -لسببٍ نجهله- توقف عن كتابتها وتركها ناقصة، وبعد عشرين سنة “بعد أن تحول التأرجح إلى عزمٍ وتصميم، وتحولت الأزمة إلى تحرر” -على حدّ تعبير (زفايغ)-  واتته الجرأة فنفّذ (تولستوي) ما اعتزم عليه.

لقد لكان جلياً -كما يؤكد (زفايغ)- أن (تولستوي) تخفّى وراء ستار (نيكولاي سارنتسيف) -بطل المسرحية-، كان يرسم مسار حياتِه بنفسه.

على أن (زفايغ) يقول مُختتماً تمهيده أن هدفه من كتابة المشهد الأخير ليس «استكمال اعتراف تولستوي بأسلوب المُستبد المُتحكم الذي يرى في نفسه نداً مُكافئاً»، بل «أريد أن أخدمه فحسب»، إذاً هي مجرد خدمة «أدبيّة» يُقدمها (زفايغ) لـ(تولستوي). 

ابتدأت المسرحية بطالبين من الثوار الروس يقدمان إلى منزل (تولستوي) بغية أن يسألانه سؤالاً واحداً لا غير، وبعد انتظاره في غرفة عمله برفقة خادم سره، يشرع الطالبان في توجيه سؤالهما إلى (تولستوي) الذي رحّب بهما مُصافحاً: لماذا أنتَ لست معنا؟ كتبك أيقظت صدورنا، وكلماتك علمتنا كيف نقف في وجه النظام الفاسد، لقد جعلتَ منا ثواراً، وعندما دنت ساعة الثورة تراجعت عن موقفك.  فلماذا -وأنت أستاذنا ومُعلمنا في العدالة ودفع الظلم- لستَ معنا؟ 

لقد كان (نيكولاي سارنتسيف) [أي (تولستوي) حسب رؤية (زفايغ)] يرى أن مواجهة الدم بالدم تطرف، وأن القوة الحقيقة لا ترد على القوة بالقوة، وأن العذاب من أجل العقيدة أحسن مئة مرة من القتل في سبيلها، فالعذاب البريء خيرٌ من إراقة الدماء. 

فلمّا قال هذا للشابين الثائرين إذ بأحدهما يرد في غضب: إذا كنت ترى أن العذاب مُفيد، فلماذا لا تتعذب أنت بنفسك؟ لماذا لا تكون أنت مثالاً يُحتذى به؟

لقد بدا وكأن هذه الكلمة أصابت (تولستوي) في مقتل، إذ قال بعدها لخادِمه: ما أعظم هذا السؤال الذي وجهه الشاب إلى ضميري! 
ثم ثنّى قائلاً للشابين: إذا كنتُ قد تخليتُ عن واجبي المقدس فذاك لأنني جبان! أنا أعترف بكل خجل أنه كان يجب علي منذ مدة أن أتخلى عن هذا الترف الذي أعيشه وأنزل إلى الشارع. 

ولما همّ الشاب بأن يعتذر عن كلامه الفظّ شديد اللهجة، أسكتَه (تولستوي) قائلاً: كلا، بالعكس أنا أشكرك! إنّ من يهز ضمائرنا ولو بقبضة يد، فقد أحسن إلينا!

بعدها يقرر (تولستوي) في المشهد الأخير [مشهد (زفايغ)] أن يهرب من منزله، فيصل إلى محطة قطار، إلا أن حمى قويّة بدأت تنتابُه، وعندما شعر بدنو الأجل، أخذ يقول لجلسائه: لقد لبثتُ سنيناً كنت أخشى فيها الموت، لكن الآن، سأذهب لمقابلته من غير خوف. ثم أمَرَهم ألا يُدخلوا أحداً عليه: لا تدعو أحداً يدخل، أريد أن أكون [معه] وحدي فقط، أحب أن تكون علاقتي به أعمق من أي وقت مضى في حياتي. 
وتصعد روحه إلى الأعلى.

لقد فارق (تولستوي) الدنيا في المسرحية بنفسٍ راضية، ومع أنه لم يقدم شيئاً عملياً للثورة إلا أنه استطاع أن يكسر قيود الذل والخوف التي كانت تُضيق الخناق عليه. 

وبذلك، مات تولستوي حراً. 

إن هروب (تولستوي) من منزله، هو هروب من حياة الترف والعجز، هو هروب إلى الله، وهذا ما كان يعنيه (ستيفان زفايغ) عندما سمّى -في كتابه- هذه المسرحية “الهرب إلى الله”.

الجدير بالذكر أن المشهد الأخير الذي اختاره (زفايغ) هو عينُه المشهد الذي انتهت به حياة (تولستوي).

نعم، لقد مات (ليو تولستوي) -الحقيقي لا بطل المسرحية- في محطة القطار بعد أن هرب من بيته، وكان قد بلغ من العمر ٨٢ عامًا.
وهذا ما يؤكد كلام (زفايغ) عندما قال: “ومع أن (تولستوي) لم يكتب المشهد الأخير، لكن الأهمّ أنه عاشه”.


بقلم: درّة سعد
مراجعة: أحمد بادغيش
زر الذهاب إلى الأعلى