المعرفة والفكر الفلسفي

غاردنر: “بإمكان كل واحد أن يطرح على نفسه أسئلة فلسفية، دون العودة إلى تقليد الأساطير” .. استدعاء الفلسفة لمواجهة الأساطير

الأسطورة عبارة عن شائعة أصبحت جزءًا من تراث الشعب الشفهي، ومن الناحية اللغوية كثيرًا ما نستخدم كلمة شائعة مكان أسطورة والعكس صحيح.

مقولة تُنسب لكلٍ من لابيير (La Pier) وفارنزورث (Farnsworth) لتعريف الأسطورة، وبالنظر للأساطير نجد أنها روح الشعوب، عبرت عن مخاوف الإنسان وأُمنياته وأقصى ما توصل إليه خياله، وكانت ركيزة أساسية للحركات الفنية لدى حضارات شعوب العالم القديم، عليها قامت الأديان وأحيانًا كانت ذريعة لقرارات سياسية، وكان احترامها يُضفي شرعية على الحاكم، ولنا في زيارة الإسكندر المقدوني لعرافة أمون في واحة سيوة مثال.

وفي العصر الحديث، الأساطيرعلم قائم بذاته، وفي علم الآثار، لا يُمكن الأخذ تمامًا بما جاء في الأساطير، كما لا يُمكن التغاضي عنها كُليًا وإغفالها بحجة أنها مجرد خيال، كانت الأساطير إغراءً للحالمين دفعهم للسفر والاستكشاف، منهم عالم الآثار هاينريش شليمان الذي تتبع الإلياذة فعثر على طروادة بالفعل، مطمورة تحت طبقات الأرض.

 جوستاين غاردر، وهو كاتب نرويجي اشتهر بكتاباته للأطفال بمنظور القصة داخل القصة ويعمل أستاذًا للفلسفة، تناول غاردر في كتابه الشهير (عالم صوفي) علاقة الفلسفة بالأساطير، وكيف أن الأسطورة كانت استدعاء للفكر الفلسفي من خلال التفكر في أحداثها ومحاولة تفسيرها واقعيًا، فيقول عن إرهاصات أو بدايات ظهور الفلسفة في العالم البشري:

إن مصطلح “فلسفة” يُطلق على أسلوب في التفكير، رأى النور في اليونان نحو 600 ق.م. وكان جديدًا بشكل جذري. قبل ذلك، كانت عدة ديانات قد أخذت على عاتقها الإجابة عن كل الأسئلة الميثولوجية، تنتقل من جيل إلى آخر بصورة أساطير.

وطوال آلاف السنين، عرف العالم كله ازدهار التفسيرات الأسطورية للمسائل الفلسفية. إلى أن جاء الفلاسفة الإغريق، يحاولون البرهنة أنه على البشر ألا يثقوا بهذه الأساطير.

لذا، علينا أن نمتلك تمثلًا أسطوريًا للعالم، كي نفهم سلوك الفلاسفة الأوائل، ويكفينا لذلك أن نتفحص بعض الأساطير، ولتكن أساطير شمالية (فالأفضل أن أتحدث عما أعرفه جيدًا).

لاشك أنك سمعت شيئًا عن الأسطورة (ثور) ومطرقته. حيث كان أهل النرويج، قبل المسيحية يعتقدون أن (ثور) يعبر السماء في عربة يجرها تَيْسان، وكلما يدق مطرقته، كان يثير العاصفة، والصاعقة، وتعني الكلمة النرويجية “ثوردون” (العاصفة) وتتركب من مقطعي (ثور-دون) أي ضجيج ثور. أما في اللغة السويدية فالكلمة التي تعني العاصفة هي (أوس-آكا) ومعناها الحرفي “رحلة الآلهة” في السماء.

الحديث عن البرق والرعد، يعني الحديث عن المطر، حيث كانت كل هذه الأفعال، ضرورية وحيوية في عصر الفايكينز. لذا كان (ثور) يُعبد كإله للخصب أيضًا.

وتقول الأسطورة أن (ثور) كان يرسل المطر، بطرقة من مطرقته. وإذ ينزل المطر ينمو كل شيء، وتكون المحاصيل جيدة.

لم يكن ممكنًا أن يُفهم فعل نمو كل شيء من الأرض وإثماره، كفعل تلقائي. لكن المزارعين أدركوا أن لذلك علاقة بالمطر. وكغيرهم كانوا يعتقدون أن (ثور) هو إله المطرو لذلك كان واحدًا من آلهة الشمال.

فكان دور الأساطير كما يقول غوستاين:

وهكذا تحاول الأسطورة أن تقدم جوابًا عما لا يستطيع الإنسان فهمه

إن الناس قد أحسوا دائمًا بالحاجة إلى تفسير الظواهر الطبيعية.

ربما لم يكن باستطاعتهم الاستغناء عن ذلك؟

إذًا. وبما أن العلم لم يكن موجودًا. فقد اخترعوا الأساطير.

يعود بعد ذلك للحديث عن الفلسفة وظهورها فيقول:

أول نظرة ناقدة للأسطورة، نجدها عند الفيلسوف كزينوفان، الذي عاش في نحو 750 ق.م. […] إلى هذه المرحلة بالتحديد يعود تاريخ تأسيس الإغريق للمدن، في اليونان، ولمستعمرات في جنوبي إيطاليا، وآسيا الصغرى.

كان العبيد يقومون بكل الأعمال اليدوية، مما يترك فراغًا كاملًا لدى المواطنين الأحرار للاهتمام بالحياة والثقافة والسياسة.

وهكذا رأينا، أسلوبًا جديدًا في التفكير، يولد في المدن الكبرى. إذ كان للفرد الواحد، الحق في التساؤل حول تنظيم المجتمع. وبالطريقة نفسها كان بإمكان كل واحد أن يطرح على نفسه أسئلة فلسفية، دون العودة إلى تقليد الأساطير.

أحمد بادغيش

مدوّن، مهتم بالأدب والفلسفة والفنون.
زر الذهاب إلى الأعلى