كيف ضاع الإنسان وفردانيته في تفاصيل الحضارة الغربية المعاصرة؟ قسطنطين جورجيو يجيب في أحداث روايته
"العالم كله يشعر بما تشعر به. ولكنه لا يريد أن يعترف"
قسطنطين فيرجيل جورجيو (١٩١٦م-١٩٩٢م) هو أحد أشهر الكتّاب الرومانيين المعاصرين، وتعد أعماله الأدبية والروائية من الأعمال المهمة في الأدب الحديث، خاصة بعد الظروف العسكرية التي عاصرتها رومانيا في القرن الميلادي الماضي خلال الحرب العالمية الثانية.
ربما تُعد رواية (الساعة الخامسة والعشرون) الصادرة عام ١٩٤٩م -بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بأربع سنوات-، والتي ترجمها الأستاذ (فائز كم نقش) بترجمتها وتقديمها إلى المكتبة العربية، في ترجمة جميلة وبليغة، تُظهر ما بالنص من حكم وأحاسيس، تصل القارئ بظروف الرواية التي تواجه شخصياتها.
ترتكز الرواية على فكرة أساسية، وهو التغيير الذي أحدثته الحرب العالمية ونتائجها على الوعي البشري، وطريقة تفكيره وتعامله مع الحياة. فيقول (جورجيو) على لسان أحد شخصيات روايته:
لقد خلق الغرب حضارة تشبه الآلة وهو يرغم الإنسان على الحياة في صميم هذا المجتمع ويدعو إلى التطبّع بطبائع الآلات وقوانينها. لكنهم بذلك يقتلون الإنسان بإخضاعه للقوانين التي تهيمن على الشاحنات والساعات.
الناس ليسو كذاك ..
الشعوب ليست كذلك!
ليس كل إنسان مشابهًا في القوة أو الضعف لكل إنسان آخر.
الآلات وحدها يمكن أن تكون متكافئة فيما بينها. هي وحدها يمكن أن تُستبدل أو تُفكك أجزاؤها وتحوّل إلى عناصرها الرئيسية أو إلى حركات أساسية. فإذا تشبّه الإنسان بها حتى يماثلها، فلن يبقى حينها إنسان واحد على سطح الأرض.
شخصية (تريان كوورغا) في رواية (الساعة الخامسة والعشرون)
يوضح بعد ذلك (جورجيو) بأن هذا التغيير كان نتيجة لإعجاب الإنسان الحديث بقدرته على التحكم في الظواهر الطبيعية، وهو ما كان دافعًا للتحكم في الإنسان الآخر امتدادًا لهذا الإعجاب بالقدرة والهيمنة. إلا أن هذا التغيير كان له تأثيره على الحياة الاجتماعية، فيكمل (جورجيو) على لسان تلك الشخصية قائلًآ:
إن الرجال يستطيعون ترويض الثعابين، والسيطرة على الأسود. لقد كان لدى (موسوليني) نمران في مكتبه. وقد حوّلهما من وحشين ضارين إلى حيوانين أليفين.
إن الإنسان يستطيع السيطرة على كل الحيوانات المفترسة. غير أن حيوانًا جديدًا ظهر على سطح الأرض في الآونة الأخيرة. وهذا الحيوان الجديد اسمه: المواطنون.
إنهم لا يعيشون في الغابات، ولا في الأدغال، بل في المكاتب. ومع ذلك فإنهم أشد قسوة وضراوة من الحيوانات المتوحشة في الأدغال. لقد ولدوا من اتحاد الرجل مع الآلات. إنهم نوع من أبناء السفاح، وهو أقوى الأصول والأجناس الموجودة الآن على سطح الأرض.
وجوههم تشبه البشر، بل إن المرء غالبًا ما يخلط بينهما. ولكنه سرعان ما يدرك أنهم لا يتصرفون كما يتصرف البشر، بل كما تتصرف الآلات. إن لهم مقاييس وأجهزة تشبه الساعات، بدلًا من القلوب. وأدمغتهم نوع من الآلة، فهم بين الآلة والإنسان، ليسوا من هذه ولا من ذاك.
رغباتهم رغبات وحوش ضارية، مع أنهم ليسوا وحوشًا ضارية. بل مواطنين .. إنها سلالة غريبة اكتسحت الأرض.
شخصية (تريان كوورغا) في رواية (الساعة الخامسة والعشرون)
ربما تذكرنا هذه الكلمات بمقولة (سركون بولص) عن الشعر والفن؛ “إن الكاتب شاهد على عصره، وعليه أن يكون واعيًا، في خضم كل هذه الفوضى والجنون، والحروب والمذابح، وأن يكون مدركًا لتلك الأصوات الباهتة التي تحدّثنا عن الزمن الماضي، عن حيوات أخرى مدفونة في بطن الحوت الذي يُطلق عليه التاريخ.”. فيقتبس (جورجيو) عن الشاعر البريطاني (ت. س. إليوت) فيضمّن أبياته في الرواية:
كل رعب يُمكن أن يُعرّف.
وكل حزن يبلغ نهاية ما؛
ليس في الحياة وقت نكرّسه للأحزان الطويلة،
لكن هذا، خارج نطاق الحياة، خارج نطاق الزمن.
خلودٌ مستمر للشر والطغيان.
لقد تدّنسنا بآدران لا نعرف كيف نغسلها.
قذارة متحدة بالهوام الخارقة للطبيعة،
لسنا نحن وحدنا، وليس البيت، ولا
المدينة فقط ما قد تدنّس.
العالم بأسره تدنّس.
(ت.س. إليوت)
يكمل (جورجيو) في تفاصيل روايته، ويوضح مخاطر الحالة الجديدة التي تواجهها البشرية، فيقول على لسان شخصية أخرى من عالم الساعة الخامسة والعشرون، فيقول:
اعلم يا بني أن “الحياة لم يكن لها أبدًا مقصد موضوعي” إلا إذا أردنا بذلك التنويه بالموت.
إن كل هدف حقيقي وواقعي ليس إلا هدفًا ذاتيًا مرتبطًا بالنفس، والمجتمع التقني الغربي يريد أن يعطي للحياة هدفًا موضوعيًا، وتلك خير وسيلة لإفنائه. لقد حولوا الحياة إلى إحصاء، ولكن “كل إحصاء يُغفل الحالة الفردية من نوعها”، وكلما تطورت الإنسانية كلما أصبحت خصوصية الشخص، وفرادة كل ما يتعلّق به، هي التهمة التي يؤخذ بها.
إن المجتمع التقني يتقدم في الاتجاه المعاكس تمامًا؛ إنه يعمم كل شيء .. “وبسبب الاستمرار في التعميم والبحث، أو إيداع كل القيم في كل ماهو عام، فإن الإنسانية الغربية فقدت كل شعور بالقيم الفردية، وبالتالي بالكيان الفردي. ومن هنا نشأ خطر الجماعية، سواء كان على الطريقة الروسية أو على الطريقة الأمريكية”.
شخصية (القس كوورغا) من رواية (الساعة الخامسة والعشرون)
وبذلك يكون هذا التعميم والتعامل مع البشر كجمع بمثابة الوسيلة الخطيرة التي تهدد الفرد ومكانته في هذه الحضارة الجديدة التي نعيش تفاصيلها في واقعنا المعاصر وزمننا الراهن، يكمل (جورجيو) على لسان ذات الشخصية، فيقول:
هذه هي جريمة المجتمع التقني الغربي. إنه يقتل الإنسان الحي في سبيل النظرية، في سبيل التجريد، وفي سبيل الخطة. هو ذا الشكل الحديث للقرابين الإنسانية. لقد استُبدلت أكوام الحطب والإعدام حرقًا في السابق، بالمكتب والإحصاء اليوم.
وليست تنيك الأسطورتان الوثنيتان الجديدتان في المجتمع المعاصر إلا النار التي تحرق الضحية الإنسانية.
[…] يستطيع الإنسان أن يبلغ على أبعد حد -استنادًا إلى هذا الأسلوب- ذروة الكمال الاجتماعي، لكن ذلك لن يفيده في شيء. لأن حياته نفسها لن يكون لها وجود في اللحظة التي تنقلب فيها إلى الجماعية والآلية، وإلى قوانين الآلة.وهذه القوانين لا يمكن مطلقًا أن تعطي معنى للحياة البشرية. وإذا جردنا الحياة من معناها -وهو المعنى الوحيد الذي تحتفط به، معنى مجاني يخرق المنطق- فلا طريق أمامها غير الفناء.
إن معنى الحياة شخصي وفردي محض!
شخصية (القس كوورغا) من رواية (الساعة الخامسة والعشرون)
يدور عالم رواية (الساعة الخامسة والعشرون) حول توضيح المشاكل التي يواجهها العالم الحديث في ذوبان قيمة الفرد فيها، وغيابه كأحد الضحايا الجانبية أحيانًا في سبيل تأسيس وتطوير هذه الحضارة المعاصرة، وهو ما يوضحه في تفاصيل الرواية وأحداثها تارة، أو في حديثه المباشر عن ضحايا الحضارة الغربية المعاصرة على لسان أحد الشخصيات، مثلما يقول:
إن الكائن البشري يخسر وجوده منذ أن يصبح تعطشه للحرية والعدالة رمزًا لجنونه. يستطيع الإنسان أن يبلغ أرقى درجات الحضارة في مراقي التاريخ، لكن حضارته لا يمكن أن تكون له عونًا في شيء.
[…] لن يستطيع أي رجل بعد الآن تحرير رجل آخر أو تحرير نفسه. لقد أصبح البشر أقلية موثوقة الأيدي مغلولة العنق، وأصبح الإنسان عاجزًا عن مدّ يد العون إلى أترابه. إنه مربوط إلى سلاسل آلية أنت تعرفها، هي سلاسل البيروقراطية الآلية، التي تزيّن معاصمنا وأقدامنا.وهي كل ما تستطيع الحضارة الغربية الحاضرة تقديمه إلى الإنسان؛ الأصفاد!
شخصية (تريان كوورغا) في رواية (الساعة الخامسة والعشرون)
تحرير: أحمد بادغيش