أيها الراحل في الليل وحيدًا .. في صحبة الشاعر عبدالرحيم أبو ذكرى
يقول الشاعر النمساوي (راينر ماريا ريلكه):
يا رب، أعط كل إنسان موته،
موته المولود من حياته نفسها ..
إن نحن سوى قشرة، سوى الورقة،
أما الثمرة التي في جوهر كل شيء،
فهي الموت الكبير الذي نحمله جميعًا فينا.
وهذا الموت تحديدًا هو ما كان ثيمة أحد كتب (جمانة حداد) بكل المعاني التي يخبئها، وكل الحسرة التي يتركها في صدور من يحضره؛ فلا موت يشبه الآخر، وكل ميتة هي فريدة بحد ذاتها، تلامس أوجهًا مختلفة بالصدمات والدموع. وفي هذا الكتاب قدمت (حداد) قرابة ١٥٠ شاعرًا وشاعرًا من مختلف أنحاء العالم اختاروا نهاياتهم المأساوية وساروا إليها حتى آخر أنفاسهم في القرن العشرين. افتتحت الكاتبة والمترجمة والصحافية الناشطة (جمانة حداد) كتابها الأنطولوجي أو الوجودي فقالت عن آلية اختيارها لهؤلاء الشعراء:
بدايةً، ضروريّ أن أوضح أني، مذ قررت تحقيق هذه الأنطولوجيا، عاهدت نفسي ألا أختار شعراءها بناء على معيار انتحارهم فحسب، بل بناءً على معيار شعريتهم أولًا وخصوصًا […] فكثر هم الشعراء الذين اشتهروا بسبب انتحارهم، من دون أن يكون لشعبيتهم مستوى فعلي وقيمي يبرر تلك الشهرة.
وأنا إذ أجمع الشعراء المنتحرين في كتاب، فليس لخصخصتها، بل لأني أحسست، كشاعرة وقارئة ومترجمة على السواء، أن حشدهم في فضاء واحد من شأنه أن يخلق من حولهم أجواء شعرية متناغمة، خصوصًا إذا ما حاولت التركيز على تيمة الموت وما يجاورها في النصوص.
من ينحني على حيوات الشعراء المنتحرين يكشف أن ثمة في كل واحد منا (تشيرازي) أو (ألفونسينا) أو (فلاديمير) أو (أميليا) أو (بول) أو (سيلفيا) .. ومن ينحني على حيواتهم يكشف أيضًا، أن ثمة خيطًا رفيعًا، ولكن متينًا، يربط الواحد منهم بالآخر في المعنى الوجداني والقدري، لا الشعري. كأنهم جميعًا من كوكب واحد.
تنقلت (حداد) بين أنحاء العالم والتجارب البشرية، مترجمة حينًا من اللغة الإنجليزية أو الفرنسية والاسبانية والألمانية. وبالطبع لا يمكن أن نتناسى أخبارها عن الشعراء العرب مثل (خليل حاوي) أو (منير رمزي). أحد أبرز هؤلاء الشعراء العرب كان (عبدالرحيم أبو ذكرى)، والذي نشر ديوانًا يتيمًا لمكتبة الشعر العربي العريقة.
اختارت (حداد) في عملها تقديم هؤلاء الشعراء بنبذة عن حيواتهم قبل ترجمة بعضًا من أعمالهم أو تقديمها للقارئ. نُشر العمل النهائي في كتاب أسمته (سيجيء الموت وستكون له عيناكِ)، أسوة بقصيدة (تشيرازي) التي يقول في افتتاحيتها:
سيجيء الموت وستكون له عيناكِ؛
هذا الموت الذي يرافقنا،
من الصباح إلى المساء.
كتبت (جمانة حداد) في مقدمة الفصل الخاص بالشاعر السوداني الرقيق، صاحب ديوان (الرحيل في الليل)، والصادر عن دار جامعة الخرطوم عام ١٩٧٣م:
شاعر سوداني، وُلد في قرية تناسي السوق عام ١٩٤٣م، وانتحر برمي نفسه من قمة مبنى أكاديمية العلوم السوفياتية في موسكو بعام ١٩٨٩م، بعدما أحرق معظم قصائده وأوراقه وقصاصات.
تابع دراسات في اللغة الروسية وآدابها في جامعة الصداقة في موسكو، ثم نال دبلومًا في الترجمة بين الروسية والعربية عام ١٩٧١م، وعمل لفترة كأستاذ غير متفرغ في كلية الآداب في جامعة الخرطوم، لكنه سرعان ما عاد إلى موسكو ونال فيها الدكتوراة في فقه اللغة عام ١٩٨٧م.
كان طموحًا جدًا، وغالبًا ما كان يقول لأصدقائه: “أشعر بأن لي مكانًا في الحياة ينتظرني، وأن هذا المكان لن يملأه أحد غيري في الشعر والترجمة“، لكنه عانى باكرًا من سلسلة انهيارات عصبية وحالات اكتئاب وإرهاق وكانت صحته ضعيفة وهشة.
قدمت (حداد) عددًا من القصائد لكل من هؤلاء الشعراء الذين قامت بتقديمهم في كتابها. فمن الأشعار اخترنا قصيدته “الغربة” وقصيدة أخرى باسم “في الفاجعة”.
الغربة:
من بلد الغربة والوحدة في الزحام،
يريد أن يهرب،
لكن كيف؟
يريد أن يعود لبلاده للصيف،
وأن يبلّه كالقمح والأشجار مطرُ الخريف.
يريد .. لكن بينه وبينها تنحفر الخدود،
وتشمخ القارات والبحار والحدود،
وفي الظلام يسقط الجليد،
يسقط الجليد،
يسقط الجليد.،
في الفاجعة:
لحظتها قلتٌ: أموت هنا،
عيناكِ لديّ كفن.
من عينكِ أشرب طعم الموت العالق،
في أفق الأجفان.
أتمعّن فيكِ وأنصت؛
أسمع خشخشة الأكفان.
كنتِ البارحة شروقًا يلهم،
ثم غدوت شريحة لحم،
أغمسها في الظلمة والفحم.
تحرير: أحمد بادغيش