عبدالله العروي يجيب عن: لماذا حقق الأدب الروسي هذا الانتشار الواسع؟
عبد الله العروي مثقف وكاتب مغربي معروف. لديه العديد من الأعمال الفلسفية التأصيلية في مفاهيم عديدة ولعل أبرزها مفهوم الحرية. و احتوى نتاجه الإبداعي على دراسات في النقد الإيديولوجي وفي تاريخ الأفكار والأنظمة وأيضا العديد من النصوص الروائية.
نجيب في هذه المقالة عن تساؤل يخص دستوفسكي والرواية الروسية، باقتباس من كتاب (من التاريخ إلى الحب) في حوار أجراه (محمد الداهي) مع (عبدالله العروي) عن الرواية ونقدها فيقول:
لوحظ، إلى حد قريب الانتشار الواسع للأدب الروسي في جلّ بقاع العالم بما في ذلك فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، فروايات (ديستويفسكي)، (تولستوي)، و(سولجنستن)، (سولفييف) و(غوركي) .. الخ حققت نجاحا كبيراً في مبيعاتها وفي استمالة وفتن عدد كبير من القراء. وفي هذا الصدد نورد تعبيراً مجازيًا للشاعر البولوني ميلوز، زيصلو C.Z.MI-LOSZ الحائز على جائزة نوبل في الآداب لسنة 1981: “أن ترى الفيل لايمكن لك أن تزعم أنك لاتراه. إن العظيم يهيمن دائمًا”. لم فرض الأدب الروسي عامة والإنتاج الروائي خاصة همينته على العالم بأجمعه؟ ولم أنتجت روسيا بالذات روائيين من حجم (دوستويفسكي)؟
هذا سؤال عويص جداً، بالطبع لأن له جوانب متعددة، يمكن أن يكون للكاتب تأثير واسع. يمكن أن يؤثر في مجتمعات مختلفة لأسباب عدة، ومع ذلك لايكون في قمة الفن الروائي. فدوستوفسكي مثلاً لاشك أنه من كبار الروائيين، لكن هل هو من المبدعين في هذا الفن؟ أنا لا أشاطر، تمامًا، من يقول بهذا الرأي. لماذا؟ لسبب واضح بالنسبة لي، وهو أنني حين أعود إلى الكيفية التي كتب بها ديستوفسكي قصصه، يجب على الإنسان ألا ينسى أن هناك دوافع شبه مادية تحكمت في الكيفية التي تصور بها (دوستوفسكي) فن القصة. كان مفروضًا عليه أولاً أن يكتب رواية طويلة جداً، إذ، في القرن التاسع عشر، كان الكاتب يتعيش من روايته. فعليه أن يكتب رواية طويلة جداً مليئة بالشخوص والمفاجآت والأدوار .. الخ..، وهذه ظاهرة نعانيها عند ديكنز أو بلزاك..إلخ.
ثانيا: إنه كان لايكتب الرواية بل كان يمليها إلى حد أن زوجته الثانية “آنا جريجوربيفنا” كانت هي الكاتبة التي تكتب مايمليه على نحو مختصر، ثم بعد ذلك تنشره. وهذا بالطبع له تأثير على تقنية الرواية كونك تملي عوض أن تكتب بيدك وقلمك.
ثالثًا: وهذا واضح بالنسبة لمن يقرأ الكتاب الذي يحمل عنوان يوميات كاتب “Joutnal d’un ecrivain”، وهو عبارة عن مقالات كان ينشرها (ديستوفسكي) في مجلة دورية (سنوية) يشرف هو نفسه عليها. وكان هو المساهم الوحيد فيها تقريبًا. فمن يقرأ هذه المقالات يرَ أن الأفكار الموجودة فيها، وهي أفكار سياسية واجتماعية وتاريخية، تتكلم عن الجنس السلافي، وعن الديين المسيحي، وخاصة الاورثوذوكسي، عن علاقة السلاف بالجرمان والأتراك..الخ، ويلاحظ أن هذه الأفكار هي بالضبط، الافكار التي توجد مشخصة في رواياته الكبرى مثلا: (الأخوة كرامازوف). فمن يقرأ هذه الرواية ستطالعه خذخ الجملة: “كل منا يريد أن يغتال أباه”. فالمرء يتعجب من هذه الجملة، سيقول هذا هو التعمق في نفسانية الإنسان، لكن، إذا تذكر أن المعنى الوحيد وهو أن الأب عنده هو روسيا، وأن الكلام هو على اتجاهين حيث يمثل كل أخ اتجاها. الاتجاه الغربي وهو التنكر لروسيا، واتجاه للماضي وهو نوع آخر. وبجانبهما الأخ الثالث (أليوشا) هو الذي يتردد بين الاخوين، ولايعرف من كان أكثر تنكرًا لروسيا؛ أي من اغتال أباه، حينئذ تكمن النقطة في تشخيص القضية وتجسيدها وفي جعل القضية قضية تاريخ وجعلها قضية نفسانية وقضية شخص. ولكن عندما يعبر عنها تمر من التعبير الفردي والنفساني إلى التغيير التاريخي، وتتضح الامور فتبدو واضحة تمامًا ولم يبق في ذلك شيء من التعمق الذي يبدو للقارئ السطحي والساذج. وما يقال عن (الاخوة كرامازوف) يقال عن باقي الروايات. فلذلك تبقى نقطة، وهي كيف تفسر أن هذا الكاتب يكتب في مسائل خاصة جداً بروسيا، وهي قضايا محددة اجتماعيًا وتاريخيا: اجتماعيا لأنه يتكلم باسم أولئك الذين كانوا من قبل أقنانا ولم يتحرروا إلا فيما بعد. لا ينبغي أن ننسى أن جد (دوستوفسكي) كان قنًا مملوكا لايملك نفسه ولاحريته، ولذلك هذه هي علاقته مع (تولستوي): هي علاقة القن بالنبيل الشريف الذي كان دائما وباستمرار حرا، وله صفحات حول هذه المقارنة، وهي من أهم ماكتب في فن تولستوي، فإذن هناك جانب اجتماعي، وهناك جانب تاريخي وهو روسيا أمام أوروبا. ولازلنا نرى للان أهمية هذا الجانب ،
فأقول: كيف نفسر أن هذه أمور خاصة بروسيا، ومع ذلك ومع ذلك يتفهمها القارئ في المغرب واوروبا والصين وأمريكا اللاتينية؟
أظن وهذا هو رأيي، أن هذه النقطة ليست خاصة بروسيا وإنما هنا يكمن الإبداع، فهذه النقطة نجد مايشبهها في الآداب الأوروبية الأخرى. نجدها، مثلاً، في انجلترا في قصص الروايات التاريخية لوالترسكوت. لكن حين كتبها هذا الأخير كانت مشكلة قديمة مرت عليها 3 قروون، وصار يتكلم عنها كشيء من ماض في روايات تاريخية. كذلك نجد الشيء نفسه عند الفرنسيين أو الألمان، لكن، وباستمرار، باعتبارها مشكلة متجاوزة، في حين إن روسيا تتداخل فيها الأزمنة وتصبح المشكلة قديمة بالنسبة للآخرين. ولكنها حاضرة بالنسبة لروسيا، ومستقبلية بالنسبة لشعوب أخرى. فهي دائمًا في برنامج العمل يقرأها الأوروبي الغربي، ويتفهمها لأنها من ماضيه. ويقرأها السلافي ويتفهمها لأنها حاضرة، وباستمرار تجد الشعوب الأخرى تجاوبًا معها عندما تحس الشعوب أنها تمر بالأزمة نفسها. ففي نظري هذا هو السر في مايمكن أن نسميه وقتية (ديستوفسكي) الدائمة، لاتتجاوز أبدًا.
ولكن، وكما نرى، هذه ظاهرة تاريخية واجتماعية، مالجانب الفني؟
قيل، مرة لـ(همنغواي)، اقرأ (ديستوفسكي). وبعد قراءته قال: كيف يمكن لكاتب كبير مثله أن يكون أسلوبه بهذه السهولة، وعدم الدقة في انتقاء الكلمات والتعابير المناسبة؟ وهذا واضح في رواياته، ومع ذلك نعتبره من كبار الكتّاب، مع أننا لانجد عنده جملة واحدة يمكن أن نعتبرها دقيقة في تعبيرها .. نقول إن ذلك يدل، فقط، على أن الرواية في بعض الأحيان تكون قصة طويلة يتغلب فيها الجانب التاريخي والاجتماعي على الجانب الفني. عندما يقال، مثلا، شاعرية (دستوفسكي)، يجب أن نعلم أننا نتكلم عن هذه الشاعرية كما لو كنّا نتكلم عن شاعرية فيلم أو مسلسل سينمائي، وليست شاعرية اللغة وإنما شاعرية المناظر .. على أي حال، في نظري، لايمثل (دستوفسكي) في فصل من روايته (المراهق) وهي قصة غير معروفة، لكن تعتبر من أروع ماكتب، أقصر من رواياته الأخرى لكنها عميقة جدًا، وفيها قسم لم ينشر، فيه ثمان صفحات يميز فيه عمله وعمل (تولستوي). يقال أن (تولستوي)، باعتباره سليل أسرة نبيلة، سليل روسيا الحاكمة، يعيش في جو الجمال، ويعبر عن الجمال دون إرهاق أو مجاهدة، أما أنا – سليل المسعبدين- فلا أعرف من الجمال شيئا، وأحاول أن أصل إلى جمال آخر، جمال لم يحلم به أبدًا (تولستوي)، وبالفعل لمّا تفكر في جو دوستوفسكي تجده بعيدا عن الهاجس الجمالي، جو الحزن والفقر والقتامة، ولكن، من خلال كل ذلك له هاجس من نوع آخر، الجمال الروحي. فعنده صفحة من أروع ماكتب عن جمال المرأة الروسية. فهي لاتكون جميلة إلا مدة عشر سنوات بين عشرين وثلاثين سنة؛ ولهذا السبب فجمال المرأة الروسية جمال عابر جدًا. فهذاالحس بالجمال لا أجده عند (نجيب محفوظ).