من رحلة أوديسيوس وخلال السرد .. ميديا والنساء في القصة العالمية
الجزء الثاني والأخير من مقالة "ميديا والنساء في القصة العالمية"
الجزء الأول من المقالة
(ميديا) .. في حكاية (جيسون)!
أُرسل (جيسون) للحصول على الجُزة الذهبية في كولشيدا في أقصى البحر الأسود، بعد تنحية والده (ايسون) عن الحكم الذي اغتصبه منه أخوه (بلياس).
تربى (جيسون) على يد خيرون أشهر المعلمين في الملاحم الإغريقية، كبر (جيسون) ليقرر استرداد الحكم المسلوب من والده على يدي عمه (بلياس). كان (بلياس) متوجسا من (جيسون) خيفةً؛ ذلك أن (جيسون) كان مدعوما من الآلهة (هيرا)، فأرسله ليأتي بالجرة طمعاً في هلاكه على يد التنين الحارس. فقبل (جيسون) التحدي، إذ كان أشجع فتيان اليونان.
كان يحرس الجُزة تنين يقتل كل من اقترب منها، تم إرساله لكي يتم قتله على يدي التنين! ركب (جيسون) السفينة أرغو، وأبحر إلى كولشيدا. رأته (ميديا) ينزل من متن السفينة فوقعت في غرامه من فورها على نحو جنوني للغاية، ولم تكن قادرة على رفع عينيها عنه!
تم تكليف (جيسون) بأعمال شاقة وصعبة، وكانت (ميديا) تنقذه دائما من تلك الأعمال. أنقذته من التنين الحارس للجُزة، فلولا (ميديا) لما تمكن (جيسون) من الحصول على الجُزة لاستعادة الحكم!
وقد هيمن عليها حُبّه لدرجة أنها قتلت أخاها قبل أن يقتلهما هي و(جيسون)! وقفت (ميديا) مع (جيسون) ضد أبيها وشعبه، وعندما همّت بالهروب مع (جيسون) دعت أخاها ليهرب معها، وافق أخوها (أبستروس) ورافقها ليتمكن منها، فاستخدمته لتمنع والدها من اللحاق بها، فقتلت أخاها وقطعته وألقت به في البحر قطعة قطعة، فلم يتمكن والدها من تقفي أثرها!
توقفت عن السحر بعد ذلك، رحلت وتزوجت (جيسون)، لكن (جيسون) ما لبث أن سئم منها وتزوج بعدها ابنة الحاكم اليوناني. زواج (جيسون) جعلها تعود إلى السحر! فعادت وقتلت زوجته برداء مسموم أرسلته لها كهدية زفاف. ثم قتلت ابنيها الذين أنجبتهما منه بإلقائهم من سطح القصر، وتنتهي بهذا الذبح أسطورة (ميديا) في (الأوديسة).
قيل قتلت أبناءها انتقاما من أبيهم، وقيل بل قتلتهم رحمة ورأفة بهم.
يذكرني مشهد قتل ميديا لأبنائها بمشهد لبوة تركت وليدها خلفها بعد إصابته بجرح منعه من المشي، تركته خلفها لتتقدم؛ لم تكن لتتقدم خطوة لو توقفت من أجله. هذه هي القوة ألا تترك مكانا للعواطف بالتحكم في مسيرك ومصيرك، أن تتقدم دائما للأمام متجها نحو النصر.
قد يرى البعض هذه قوة، وقد يكون التخلي عن التقدم والنصر هو القوة! هل تكمن القوة في التخلي عن العواطف؟! أو أن الرحمة والعطف منبع القوة الأصلي؟!
لكن ميديا كانت تشعر على نحو دائم أنها على حافة هاوية إن لم تضرب سيتم دفعها للسقوط! لذلك عُرفت عنها مقولتها الشهيرة: “أفضل دفاع هو الهجوم الجيد”. قيل إنها أصبحت زوجة (أخيل) بعد ذلك، وتمت عبادتها في روما كربّة للسحر، وكوسيطة لـ(هيكاتيه)، وجعلوا مركز عبادتها في ثيساليا مركز السحر.
السحر والنسوة في الأدب؛ (ميديا) و(كوركي) أنموذجًا
نلحظ مما سبق تهميش أدوار المرأة في السياقات التاريخية، وفي الأدب العالمي. إن مجرّد افتقار المرأة للحوار في الأدب يعكس جلياً التهميش الحاصل لها.
كما يتم ذكر قوة المرأة غالبا كشرّ! فلنتخيل للحظة لو كانت (ميديا) أو (كيركي) رجالاً! لكانوا أبطالاً شجعانا لا سحرة بكل تأكيد. نقرأ في الأدب عبارات مثل: “كان (جيسون) أشجع فتيان اليونان!” أو: “ضجِر (جيسون) من حماقة (ميديا)! ونقرأ عن (ميديا): “طردها والدها لقتلها أخاها، رغم أنها قتلته إثر وقوعها تحت ضغط هائل من أسرتها، قتلته في محاولة أخيرة للنجاة بنفسها”.. لكنهم أرادوها أن تُضحي ككل النساء.
تعلمت (ميديا) كما (كيركي) أن الناس ولابد سيخطئون عليهن فكان عليهما أن تخطوان الخطوة الأولى كتكنيكٍ دفاعي؛ لذلك عُرفت عبارة ميديا السابقة الذكر “أفضل دفاع هو الهجوم الجيد”. ورغم أن شخصية (كيركي) كانت أكثر تعاطفاً من شخصية (ميديا) إلا أن الاثنتين عوملتا بالمثل: النفي والاتهام بالسحر.
تمتعت (ميديا) بشخصية قوية مستقلة عن مجتمعها، لم تكن مطيعة! لم تكن تابعة؛ بل كانت صاحبة قرار، رفضت أن تتم معاملتها بصفة الابنة أو الزوجة. إن صعوبة تنفيذ المرأة لقراراتها لا يؤدي إلا إلى صعوبة الخيارات التي تتبقى أمامها تحت ظلّ النظام الأبوي الذي تعيش فيه.
إن “للسحر” رمزية تشير إلى كراهية المجتمع لقوة الأنثى. أما رمزية ممارسة السحر للنساء فقد كان يمثل بحثهن عن الأمان والاستقلال في عالمهن الموحش.
أدهشني حقيقة أن أرى نموذج (ميديا) و(كيركي) منذ أقدم العصور، لايزال يتكرر حتى عصرنا الحاضر. غير أن الاتهام “تطوّر” إلى الجنون والفساد والتمرد والمجون! لم يتغير الكثير في الحقيقة ولاتزال المعركة قائمة.. تُنبذ المرأة القوية ويُطالبون بنفيها بعيدا..
أخذت ابنتي لحضور فيلم (مولان) ٢٠٢٠، لفتت نظري شخصية المرأة المحاربة التي وُهبت طاقة “التشي”، الطاقة التي كانت تعدّ فخرا وشرفا للرجال فقط، أما الفتاة التي تتجرأ على إظهارها فيتم نفيها وإقصاؤها ووصمها بالساحرة بدلا من المحاربة، كالرجل المحارب!
تقول شخصية المرأة المحاربة أو الساحرة التي تم نفيها في الفيلم: “كنت كلما أظهرت قوتي أكثر كلما سحقوني أكثر”!
وتقول (كيركي): “يجعلك الشعور بالوحدة الكبيرة تخلق استقلالاً عظيماً”، وتقول: “أرتقي عندما أذهب إلى الأعشاب، أنا أصنع شيئا.. أُحوّل شيئا.. السحر الخاص بي أقوى من أي وقت مضى.. كم عدد الذين لديهم مثل هذه القوة والترفيه والدفاع مثلي؟!”.
تعتقد (مادلين ميلر) إن الطريقة الوحيدة للتمسك بالسلطة مع أخلاقك كامرأة في وقت واحد لن تكون إلا بالشجاعة! إذا حاولت الاستقلال في هذا العالم فأنت مجبرة على القيام بما قامت به (كيركي) و(ميديا) و(هيدا)، ستضطرين دائما إلى الدفاع عن نفسك ضد الشك، مع أن ذلك سيؤدي في معظم الأحوال إلى خلق المزيد من الشك. أو أن تصبحي مثل ثيا في قصة (هيدا) أو (بينولوبي) زوجة (أوديسوس) المخلصة.
تجسد “الساحرة” قلق الذكورية بشأن قوة الإناث، إلصاق تهمة “السحر” بالأنثى القوية؛ ليتمكنوا من قول: انظروا ماذا يحدث عندما تُعطى المرأة القوة والاستقلال؟! وغالبا ما تكون الساحرة المشعوذة القبيحة الشريرة مجرد امرأة عزباء حرة ومستقلة! عندما ننظر لـ(كيركي) بتجرد فهي في حقيقة الأمر امرأة حكيمة مستقلة وممرضة وطبيبة، جعلوها ساحرة! لكنهم إذا مرضوا لجأوا إليها بحثا عن العلاج.
يجب أن لا ننسى ذكر ليدي مكبث والساحرات الثلاث ضمن هذا السياق، واللاتي مثلن السحر والشعوذة في انعكاس للمعرفة والقوة والرغبة في السلطة تماما كالرجال!لم تكتفِ المجتمعات باتهام المرأة بالسحر والشعوذة والفساد والمجون والجنون، بل إن الأمر تعدى ذلك إلى التلذذ بإذلال المرأة انتقاما من عزتها وقوتها وصلابتها!
(هيدا جابلر)
عندما أشهر (أوديسوس) سيفه على رقبة (كيركي) في “مشهد بطولي” يملأ أعين الناس فرحاً! ركعت (كيركي) أمامه استجداء عطفه ورحمته، وأهدت نفسها وبيتها له لسنة كاملة، وأرشدته طريق العودة. وكأنه لا يمكن أن تكون هناك قصة مالم تزحف النساء باكية طلباً للرحمة! أما أدوار البطولة والعزة فقد كانت للرجال دوماً.
كانت المرأة تخشى أن تمتعض بشأن أي هضم لحقوقها خوفاً من اتهامها بالاتهامات الباطلة التي يطلقونها جزافاً. صوروا ميديا بصورة الساحرة الشريرة الحاقدة المتهورة اللاعقلانية! مثّلت (ميديا) و(كيركي) المرأة التي لا تقبل التنازل عن حقوقها. تحولت شخصيتاهما عبر الأزمنة من الساحرة القاتلة الشريرة إلى أحد رموز التحرر الأنثوي من النظام الأبوي.
ثم أطلّت علينا شخصية (هيدا جابلر) لـ(هنريك إبستن) في القرن العشرين، (هيدا) من أوائل المطالبات بحقوق المرأة، والتي تم تصويرها من قبل المجتمع على أنها امرأة منحرفة. تعتبر (هيدا) نسخة حديثة من (ميديا)، وهي امرأة أرادت الاستقلال لكنها لم تُعط هذا الحق الأصلي، فكانت ردة الفعل الوحيدة الممكنة هي انعدام الوفاء لأهلها الذين سلبوا منها حقها، لتُتهم تلو ذلك بالشرّ والخيانة ولا غرابة!
كل ردّات فعل هؤلاء النساء حتى الأكثر جموحا لم تكن سوى صرخاتٍ للمطالبة بحقوقهن المسلوبة، لم تكن أكثر من ردودٍ على كل الاتهامات والافتراءات الباطلة. سُلبوا التمكين من التواصل والتعبير، لم يقبلوا حصولهن على صوت؛ خشية من سماعه. يزعجهم ألا تكون المرأة خادمة خاضعة، زوجة وأم فقط في هيكلة ثقافية صنعت مؤسسة الزواج الشبيهة جدا بالعبودية.
إن صورة (هيدا) وهي تمسك بيدها مسدساً أرعبتهم، ترعبهم للغاية فكرة أن تمتلك المرأة القوة! لذلك خلعت (ميديا) الضعف الناتج عن عواطف الحب والذكريات حتى أنها قشعت عنها غريزة الأمومة! كان عليها أن تتجرد لتحكم لتسيطر ففي عالم القوة لا وجود للعاطفة والرحمة.
وهم بالمناسبة يحاربون اللطف بشكل عام، حتى الرجل اللطيف يُحارب! يرون اللطف ضعفاً! فالبقاء للأقوى في معركة البقاء، على الأقل في المجتمعات المتشددة. ليس للألطف كما يرى أصحاب نظرية البقاء للألطف! أو للأجمل رغم أن اختيار الأجمل أمر في غاية القسوة ولا يتعارض مع الأقوى إلا باختلاف الصفة، سحرت معايير الجمال أصحاب هذه النظرية حتى لم يروا مدى قسوتهم!
وفي حقيقة الأمر لا يعدو “الرجل المثالي” بالنسبة لهم أكثر من مجرد خادم متسلط! حتى إن الشريعة الإسلامية تعتبر القوامة تكليفا لا تشريفا! المنظومة بأكملها بكل عناصرها مُجهدة ولم تقم على نحو صحيح، كان “الطفل” ولا زال المستفيد الأول. إن كل هذه الأمور تحدث وتدور حول بناء البيئة الأنسب لتربية الطفل، من أجل استمرار وتطور البشرية.
ربما كان تسلط الذكر على الأنثى هو ما بدأ الذكورية، ربما كذلك كان أول من استدعى كل ذلك امرأة كسولة أو متخاذلة، امرأة كانت أكسل من أن تقوم بأمورها وأمور وليدها، امرأة تدّعي الضعف وعدم القدرة على توفير غذاء طفلها. فيهرع الأب من منبع الأبوة لتوفير احتياجات ابنه! ربما رأوها أخريات وأعجبتهم الخدعة، خدعة كانت أو حالة ضعف فردية!
كُتب الانتشار للخدعة أياً كانت! وكلما استاءت امرأة لا يسُرّها أن تُخدم رغماً عنها ثارت ثائرة بقية النسوة وأقاموا الدنيا عليها خوفاً من انكشاف خدعتهن وزوال مكاسبهن من توفير المعيشة المجاني الذي يقدمه الرجال بكل إخلاص! حتى إن المرأة الكسولة من شدة كسلها أعطت دور المحارب للرجل؛ لينوب عنها، كانت أكثر كسلا من أن تحارب معاركها! أقنعت الرجال أن الشر كل الشر يكمن في استقلال تلك المرأة عن الرجل.
أو ربما.. ربما كان رجلا خدوما بطبعه أراد لشريكته الراحة فأثار إعجاب النساء فقلده بقية الرجال.. ربما.. لن يعلم أحد بشيء على وجه اليقين! ربما لم يكن “الذكر” عدو المرأة، بل كانت قناعة ممكنة الحصول لدى الرجل أو حتى المرأة.
الأنثربولوجيا النسوية، ونظريات تحليل تبعية المرأة
وددت لو أمكنني أن أسترق النظر إلى العصور الأولى للجنس البشري، حتما لن أتفاجأ لو رأيت النساء تصيد! لكان الكسل والتكاسل والرغبة في الاعتماد على الآخرين السببَ الأولَ لظهور الذكورية، التي تطورت وازدادت حدة بمرور الزمن. ولكنت أضفت الكسل إلى أوائل الذنوب جنبا إلى جنب مع الكبر والحسد!
وقد ظهرت الأنثربولوجيا النسوية كحقل فرعي لعلم الأنثروبولوجي، كردة فعل على التحيز الذكوري القائم والظاهر في عملية جمع المعلومات، فقد بُنيت العلوم الاجتماعية تحت أنماط التفكير السائدة في المجتمعات. كنمط التفكير الكنسي على سبيل المثال! مما أدى إلى نتائج كارثية، وفهم ناقص للتجربة الإنسانية!
وقد اعترضن نسويات الأنثروبولوجي على الصبغة الذكورية الظاهرة بحدة في تحليل الآثار، التي ادعت أن القائمين على عمليات الصيد وسنّ الرماح هم من جنس الرجال فقط. بدأت الأنثروبولوجيا النسوية موجتها الأولى بالعمل على تطوير نظريات لتحليل تبعية المرأة، والذي بدا عالمي الحدوث في العديد من الثقافات.
إن عدم وجود نظريات تفسر اضطهاد المرأة على اختلاف أنواعه، جعل تفسير الماركسية للطبقية والقهر الرأسمالي يظهر كتفسير لهذا الاضطهاد. فتبعية النساء في المجتمعات الرأسمالية سواء من حيث دورهن الإنجابي وأعمالهن الأسرية الغير مدفوعة الأجر ناشيء من الاتجاهات التاريخية التي سبقت الرأسمالية نفسها. إذ إن عمل المرأة الأسري بلا أجر أمر داعم لإنتاجية أقوى في الأعمال، مما يؤدي إلى تقليل التكلفة الإنتاجية من أجل تشغيل الاقتصاد الرأسمالي، مما يزيد هوامش الربح للطبقة البرجوازية.
وقد تم عزو بداية اضطهاد المرأة إلى العصر الحجري الحديث عند بداية تملك الرجال للأراضي والقطعان، ورغبتهم في نقل الملكية إلى نسلهم عبر الميراث الأبوي، وتم تحقيق ذلك من خلال الإطاحة بالنسب الأمومي مما أدى إلى الهزيمة التاريخية للجنس الأنثوي.
لكنني أتوقف هنا عن ربط النسب الأمومي بالاضطهاد الحاصل للمرأة؛ لكون الجين المسؤول عن استمرار السلالة البشرية ينتقل عبر الذكور فقط ولا ينتقل عبر الإناث، وإن لم تكن الأجيال السابقة على علم بهذا الأمر. وكان هناك تفسيرات أخرى ذات نهج بنيوي لما تعرضت له المرأة من اضطهاد، بناءا على أن دور الذكر في الإنجاب سمحت للجنس الذكري أو أجبرته على العمل خارج المجال المنزلي الآمن نسبيا.
لكن كلا النموذجين الماركسي والبنيوي يرفضان فكرة أن اضطهاد المرأة كان لسبب فطري أو بيولوجي في الأنثى، بل هي مجرد برمجة مجتمعية للسلوك البشري. فإن ازدواج الشكل الجنسي لدى الإنسان هو سمة بيولوجية للأنواع ولا تُلزم بأي برمجة لسلوك الاضطهاد الحاصل للمرأة.
وتُعتبر الأنثروبولوجيا النسوية أساس ما بعد الحداثة؛ لأنها تشكك في الافتراضات. لطالما كان نموذج الرجل الصياد مسيطرا وداعما لفكرة أن الرجل هو القوة الدافعة للتطور البشري! لكن لم يعد بالإمكان تجاهل الانحياز الثقافي الذكوري في تحليل تاريخ الجنس البشري، وتهميش دور المرأة الضخم في الأنشطة الإنتاجية والإنجابية التي أُسندت لها من قبل الثقافة المجتمعية آنذاك.
ويجعلنا نهج التكوين الثقافي نتساءل: هل تحكم الثقافة البيولوجيا؟! هل كل الرجال سواء؟ وهل كل النساء سواء؟ هل يملك كل الرجال والنساء البنية الجسدية ذاتها؟! بغضّ النظر عن أدوات التكاثر الجنسي!
هكذا ظهرت نظرية كوير كردة فعل ما بعد البنيوي، حيث تتحدى فكرة الفصل بين الجنسين، وتتحدى فكرة أن جنس الإنسان جزءٌ من الذات الأساسية، بل إن الجنس اعتمد بدلا من ذلك على الطبيعة المبنية اجتماعيا للهويات الجنسية المعطاة لها، فالمؤسسات الاجتماعية هي التي صنعت الهياكل الاجتماعية الجنسية المعيارية للبشر.
ونلحظ مدى تأثير البناء الثقافي لكل جنس، وفكرة الثنائيات المتأصلة لدى دوركايم. فالأنثروبولوجيا النسوية تسعى لإظهار النظام الاجتماعي بصورته الديناميكية الحقيقة الواقعية باعتماد الأمر على الفرد بذاته لا على جنسه ذكرا كان أو أنثى. وتم تأسيس هذه النظرية الديناميكية بناءا على فكرة ماركس بأن العلاقات الاجتماعية تتجلى مع الممارسة في الواقع، فالتركيز الآن يجب أن يقع على الهوية لا على الجنس.
وتدرس حاليا الموجة الثالثة من الأنثروبولوجي النسوي الاختلافات بين النساء بعضهن البعض، وليس بين الإناث والذكور كالسابق. فقد أصبحت القوة هي العنصر الحاسم في التحليل الأنثروبولوجي. كل ما علينا الآن فعله كما أشارت ماريان هستر هو أن نكرّم ذكر الساحرات تقديرا وإجلالا للقوة.
فلتحيا الساحرات!