الحضارات البشرية والتاريخ

بلوتارخوس في وصف إسبرطة

hl-spartans

يكفي ذكر بعض اسم مدينة لتستحضر الذاكرة والخيال صورة ما، إسبرطة، عند ذكرها لابد وأن تسمع صوت مزامير الرعاة في الجبال، وصوت ارتطام سيفين خشبيين وصيحات أطفال يتدربون على القتال، وصوت أعضاء مجلس الشيوخ يتناقشون رُبما حول ذهاب الجيش للحرب.
كانت بلاد اليونان قبل فيليب المقدوني مُقسمة لدويلات في مُدن، بنظام عرف بدولة المدينة  (Police)، وكانت إسبرطة واحدة من تلك الدويلات، لها نظام حكم قائم بذاته، بدستور وبرلمان رُبما تتجاوز سلطاته قوة الحاكم نفسه، وجيش خاص يسهر على حمايتها ويغزو ويُشعل الحروب من أجلها، ساد إسبرطة الطابع العسكري، حد اهتمامهم بتدريب الأطفال مُنذ نعومة أظافرهم على القتال في معسكرات خارج المدينة، وحد تدريب النساء أيضًا على مهارات القتال، رُبما لنزع الخوف من قلوبهن، ورُبما لتربية أبناء على قدر القوة التي تتطلبها تلك المدينة.
حدثنا بلوتارخوس، وهو فيلسوف ومُحاور وسفير ومؤرخ يوناني تحصل على المواطنة الرومانية فيما بعد، حدثنا عن إسبرطة، عن تكوينها السياسي والعسكري والاجتماعي الذي جعلها كما كُتب عنها في التاريخ، والذي استفاد منه أفلاطون في نظرياته السياسية فيما بعد، وقد نقل إلينا الكاتب اللبناني دكتور إبراهيم النجار في كتابه (مدخل إلى الفلسفة) ما ذكره بلوتارخوس عنها، ومنه:

كان الإسبارطيون يعاملون الرجال والنساء بالتساوي في كل شيء بما فيه التمارين الرياضية التي لم يكن الهدف منها إرسال النساء إلى المعركة بل تدريبهن على عدم الخوف من الألم وعلى عدم إظهار الشفقة أو الضعف. وعند ولادة أي صبي، كان يجب على والده أن يأخذه إلى مجلس العائلة من المسنين ليتم فحصه، فإذا وجدوه ضعيفًا وهزيلًا  رموه في بئر ماء عميقة. وعاد الأب إلى بيته وكأن شيئًا لم يكن. كانت الخدمة العسكرية تبدأ في سن العشرين، ويُسمح للرجال بالزواج في هذا الوقت، ولكن لا يعيش الرجل مع زوجته إلا بعدما يدخل الثلاثين من عمره. كان يعيش الرجل في بيت مخصص للرجال يأكل ويعيش معهم. وبعد الثلاثين كان ينتقل إلى بيته ولكن يبقى يأكل مع الرجال. ولا يسمح للرجال أو المواطنين الإسبراطيين بالعمل في الفلاحة لأن فلاحة الأرض تعتبر مهنة غير لائقة بالرجال الأقوياء الذين عليهم أن يصونوا البلاد ويكونوا على أهبة الاستعداد للحرب في أي لحظة. كانت الدولة هي التي تملك الأرض وتوزعها على المواطنين بالتساوي.

يفلح الأرض خدم تم أسرهم أو الانتصار عليهم في الحرب. ليس الخدم عبيدًا ولكن لا يحق لهم الانتقال من قطعة أرض إلى أخرى. يزرعون الأرض ويقدمون حصة معينة إلى المواطن الإسبارطي الذي وزعت الأرض عليه ولا يملك حق بيعها. وهكذا تكون طبقة العسكر لا تختلط مع طبقة المزارعين. ويُقال أن (ليسوغوس) واضع دستور إسبارطة في سنة ٨٨٥ ق.م. قد استعار هذه الحكمة من المصريين القدماء. ومن الشائع أن (ليسوغوس) كان مشرّعًا حكيمًا.

يتولى الحكم في إسبارطة ملكان في نفس الوقت، كل من عائلة أو قبيلة مختلفة وينتقل الحكم بالوراثة. فأحد الملكين يقود الجيش إبان الحروب ولكن في وقت السلم يتمتعان بنفس السلطة. كانا عضوين في مجلس الأعيان الذي يتألف من ٣٠ شخصًا ينتخبون مدى الحياة شرط أن يكون العضو فوق ٦٠ سنة ومن عائلة أرستوقراطية. يحكم المجلس فقط في الأمور الإجرامية ويحضر المشاريع التي تبحثها الجمعية العمومية التي تتألف من جميع المواطنين. وكل القوانين التي تقرها الجمعية لا تصبح نافذة إلا إذا أعلنها مجلس الأعيان.

إضافة إلى ذلك كان هناك خمسة قضاة (أو إفارات) ينتخبهم كل المواطنين. ووظيفتهم هي مراقبة أعمال الملكين. وفي كل شهر يحلف الملكان أمام القضاة الخمس بأن يحموا الدستور ويحترموه ومن ثم يحلف القضاة أمام الملكين بأن يطيعوا الملكين شرط أن يحفظ الملكان عهدهما. وعندما كان يذهب ملك إلى الحرب كان يرافقه قاضيان ليتأكدا من سلامة تصرفاته.

لقد أدى هذا النظام إلى استقرار إسبارطة واشتهر الإسبارطيون بكونهم محاربين لا يقهرون. ويقال أن جماعة منهم تقارب ٣٠٠ محاربًا خاضوا معركة ثارموبليه سنة ٤٨٠ ق.م. ضد الفرس الذين كانوا يتفوقون عليهم بالعدد والعتاد. ولكن عندما فشلت كل محاولاتهم في في اختراق صفوف الإسبارطيين من الأمام، لجأ الفرس إلى خدعة وهاجموهم من عدة جهات وقتل الجميع خلال الدفاع عن أماكنهم. وكان قد تغيّب فارسان عن المعركة بسبب المرض، فجرّ واحد نفسه إلى المعركة وقتل، أما الآخر فعاد إلى إسبارطة، ليلقب بالجبان وقد قاطعه جميع من حوله.

سقطت إسبارطة سنة ٣٧١ ق.م. على يد مدينة ثيبا ذات القوة البحرية الصغيرة التي ألّبت أثينا ضد إسبارطة في حرب البيلوبونيز، وكان خوف ثيبا من إسبارطة كبيرًا، وكان يظن حكامها في الحزب الديموقراطي أن إسبارطة ستقضي على أثينا ومن ثم على ثيبا بمساعدة كورنث. فعملت ثيبا على إنشاء حلف يوناني تتزعمه أثينا لتقف في وجه إسبارطة حليفتها كورنث. ولكن لم يحالف الحظ هذا الحلف وانتهت حرب البيلوبونيز بهزيمة أثينا وانتصار إسبارطة. ويبدو أن العداوة لم تمت بسقوط أثينا. فعادت ثيبا وتحدت إسبارطة بمفردها وقضت عليها. ومنذ ذلك الحين لم يعد يحسب لإسبارطة أي حساب. ولم يدم الأمر طويلًا  حتى خضعت أثينا وكل اليونان لجيوش المقدونيين القادمين من الشمال بقيادة الإسكندر الكبير. وبعدها انتشر المقدونيون في الشرق كله.

أحمد بادغيش

مدوّن، مهتم بالأدب والفلسفة والفنون.
زر الذهاب إلى الأعلى