ما هو منشأ الترجمة الحرفية؟ بورخيس يجيب
خورخي لويس بورخيس (1899-1986)، هو كاتب أرجنتيني. يُعد عَلمًا من كتاب القرن العشرين، وكان له دور بارز في الشعر والنقد والترجمة. في خريف 1967، ألقى (بورخيس) في جامعة (هارفارد) سلسلة مكونة من ست محاضرات عن الشعر، وخلال أكثر من ثلاثين عامًا، ظلّت هذه المحاضرات محفوظة على أشرطة ممغنطة في قبو صامت لإحدى المكتبات، منسيّة دون أن تجد طريقها إلى النشر، إلى أن رأت النور ضمن مطبوعات جامعة هارفارد عام 1970 مثبتة قيمتها الأدبية العالية، أن التأخر في النشر لا يعني دائمًا عدم الأهمية. فمحاضرات (بورخيس) ما زالت -في الأوساط الثقافية- تملك الأهمية ذاتها التي كانت لها حين ألقاها قبل أكثر من ثلاثة عقود.
جُمعت هذه المحاضرات في كتاب، ومن ثم ترجمت إلى عدة لغات، منها العربية. وحملت عنوان (صنعة الشعر)، حسب ترجمة الأستاذ (صالح علماني). في محاضرته الرابعة، والتي خصصها عن الترجمة، تساءل (بورخيس) عن مصدر الترجمات الحرفية، والتي تحافظ على الألفاظ، وتنقل النص كلمة بكلمة من لغته الأصل إلى لغة أخرى. فيجيب بعد ذلك:
ما هو منشأ الترجمات الحرفية إذًا؟ لا أظن أنها ظهرت نتيجة التقدم في العلم، ولا أظن أنها ظهرت نتيجة هاجس الدقة. أعتقد أنه كان لها منشأ لاهوتي. فعلى الرغم من أن كل الناس كانوا يرون أن (هوميروس) هو أعظم الشعراء، إلا أنهم لا ينسون أن (هوميروس) كان بشرًا، ويمكن بالتالي لكلماته أن تتبدل. ولكن عندما صار لا بد من ترجمة الكتاب المقدس، طُرحت مسألة شديدة الاختلاف، إذ كان يفترض أن الكتاب المقدس هو من وضع الروح القدس. وعندما نفكر في الروح القدس، عندما نفكر في ذكاء الرب غير المتناهي مرتبطًا بمهمة أدبية، فإننا لا نستطيع أن نتصور وجود عناصر طائرة -عناصر مصادفة- في عمله. لا. فإذا ما كتب الرب كتابًا، إذا ما تفضل الرب على الأدب، فإن كل كلمة، كل حرف، مثلما يقول القباليون، يجب أن يكون قد جاء نتيجة تأمل عميق. ويمكن للتلاعب بالنص الذي صاغه الذكاء غير المحدود والسرمدي أن يكون تجديفًا.
ويضيف (بورخيس)، واصفًا رأيه بمحض افتراض مجرّد:
وهكذا، أظن أن فكرة الترجمة الحرفية برزت مع ترجمات الكتاب المقدس. إنه مجرد افتراض مني، يُخيّل إليّ أن ثمة مختصين كثيرين حاضرين هنا، ويمكن لهم أن يصححوا لي إذا ما كنت مخطئًا، ولكنه افتراض أعتبره محتملًا إلى حد بعيد. وعندما تم التوصل إلى ترجمات حرفية باهرة للكتاب المقدس، بدأ البشر يكتشفون .. بدؤوا يفكرون في أن ثمة جمالًا في أساليب التعبير الأجنبية.
وفي مديح الترجمة الحرفية ومدى قبولها بين الناس يستطرد قائلًا:
وصار الجميع اليوم مؤيدين للترجمات الحرفية، لأن الترجمة الحرفية تستثير فينا على الدوام هزة الدهشة الخفيفة التي ننتظرها. وعمليًا، يمكن القول إنه لا حاجة إلى الأصل. وربما يأتي الوقت الذي سيُنظر فيه إلى الترجمة على أنها شيء قائم بذاته.