في الفن والقابلية للفن
في كتاب (روح الموسيقى) للكاتب سمير الحاج شاهين أورد بعض الفقرات يبيّن فيها التشابه بين الطفل والفنان، والفروقات ما بين الفنانين وغيرهم من الراشدين.
فما هو السر الذي يجعل لأحدهم القابلية لأن يكون فنانًا؟ ولم لا يكون الجميع فنانين؟ يجيب سمير فيقول بداية عن العبقرية والفن عند الأطفال:
إن للعبقرية طابعًا طفوليًا. وبالفعل إن الجهاز العصبي والدماغي عند الطفل كما عند العبقري له أسبقية ملحوظة، لأنه ينضج ويحقق نموّه قبل بقية الأعضاء، بنوع أنه يبلغ حجمه وكثافته الكاملة في سن السابعة.
وهذا سر ذكاء معظم الأطفال وحكمتهم وفضولهم وطاعتهم. إنهم مؤهلين أكثر من الراشدين للاهتمامات النظرية. إنهم يحوزون من الفكر أكثر مما يملكون من الإرادة. إذ أن التكوين الجنسي، الذي هو مصدر الميول والرغبات والأهواء، لا يظهر تقريبًا إلا بعد خروج المرء من مرحلة الحداثة الأولى.
من هنا إن الطفولة هي عهد البراءة وجنة عدن المفقودة التي نظل نهفو إليها دائمًا بحنين، لأن وجودنا خلالها يتكثف في المعرفة أكثر مما يتركز في الغريزة. فرغباتنا الضعيفة، وميولها الحائرة، وهمومها الطفيفة ليست بشيءٍ يذكر إذا ما قيست بغلبة نزعتها الفكرية. وأفضل بُرهان على ذلك هو الألوان الزاهية النضرة الطريفة، والبريق السحري الطاغي الذي يكسو العالم في فجر الحياة.
هي نظرة الأولاد البكر الصافية التي تفرح قلوبنا، وتبلغ عند البعض هذا التعبير التأملي السامي الذي زيّن به (رافائيل) رؤوس الملائكة في لوحاته.
ثم يقول موجِزًا:
وبالحقيقة إن كل طفل هو عبقري بمعنى ما، وكل عبقري هو طفل إلى حد معين. إن التشابه والقرابة بين هذين الكائنين يبدوان أول الأمر في جلالة البساطة، التي هي الطابع المميز لكل إبداع. ولنا في مقولة (ديبوسي) خير مثال، حين قال: “أريد أن أكتب حلمي الموسيقي بأكمل تجريد عن ذاتي، أريد أن أغني منظري الداخلي بطهارة الطفل الساذجة”.
ويكمل بعد ذلك، عن التحول الذي تفرضه الحياة على الغالبية:
إن (موزارت) مثلًا كان إنسانًا ناضجًا في فنه، أما في نواحي الحياة الأخرى فإنه يظل صبيًا يافعًا. وهذه هي حال المُلهَمين، الذين ينظرون إلى العالم نظرتهم إلى عنصر مستقل عنهم، إلى مشهد، أي بفضول موضوعي بحت، والذين لا يملكون، أسوة بالصغار، تلك الصرامة والرصانة الجافة التي تُميّز الأشخاص العاديين العاجزين عن أن يروا مصلحة غير منفعتهم الخاصة، وأن يتجلوا في الأشياء سوى حوافز على العمل.
ويتابع:
إن ذاك الذي لا يبقى طوال عمره طفلًا بمعنى ما، بل يصبح رجلًا جديدًا وباردًا، معتدلًا وعاقلًا على الدوام، قد يصير مواطنًا مفيدًا وقديرًا للغاية، لكنه لن يكون قط ذلك العبقري الذي يتحلّى بصفة فريدة وهي احتفاظه حتى آخر أيامه وبصورة دائمة ومتواصلة بأولوية الوظائف العصبية والنشاطات العقلية التي تميّز سنوات العمر الباكرة، والتي يستمر قبس من روحها الخالدة متوقدًا في صدور بعض العامة حتى مرحلة الشباب، ومن هنا هذه النزعة المثالية الشعرية لدى قسم من الطلاب. لكن الحياة سرعان ما تأخذ مجراها الطبيعي عندهم، فإذا بهم يتحولون بعد بلوغهم طور الرجال إلى أناس جشعين وصوليين ننفر ونخاف منهم إذا ما قابلناهم في الأعوام اللاحقة.