الفن والجمال عند نيتشه
فريدريش فيلهيلم نيتشه (1844-1900) فيلسوف وشاعر ألماني. كان لعمله تأثير عميق على الفلسفة الغربية وتاريخ الفكر الحديث. وكان من أبرز الممهّدين لعلم النفس وكان عالم لغويات متميزًا. كتب نصوصًا وكتبًا نقدية حول المبادئ الأخلاقية والنفعية والفلسفة المعاصرة المادية منها والمثالية الألمانية. وكتب عن الرومانسية الألمانية والحداثة أيضًا، بلغة ألمانية بارعة. يُعدّ من بين الفلاسفة الأكثر شيوعًا وتداولًا بين القراء، وللاستزادة في مقالات نيتشه، هنا (تساؤل نيتشه عن حقيقة نتائج البحث العلمي والفلسفي)، (التحولات الثلاث للعقل)، (عن القراءة والكتابة في ديوان نيتشه). أما في كتابه (غسق الأوثان) أو كيف نتعاطى الفلسفة قرعًا بالمطرقة، كما وصف العنوان، يتكلم عن الفن والجمال بدايةً فيقول:
لكي يكون هناك فن، ولكي يكون هناك عمل جمالي ما ونظرة جمالية، لا بد من توفر شرط فزيزلوجي لا محيد عنه: النشوة.
فالنشوة هي أساس كل عمل ونظرة جمالية برأي نيتشه، فيقول مؤكدًا بعد ذلك:
لا بد أن تكون النشوة قد رفعت من وتيرة استثارة الآلة بكليتها؛ من دون ذلك لا يمكن إنجاز أي فن.
فعلاقة النشوة بالجمال كما يقول نيتشه:
إن الأمر الأساسي في النشوة هو ذلك الشعور بتفاقم الطاقة وزخم الامتلاء. وبدافع من هذا الشعور نضفي من أنفسنا على الأشياء؛ نجبرها على أن تتسلم منا، بل نغتصبها – وتُسمى هذه العملية مثْلنة. ولندع عنا فكرة مسبقة متداولة؛ إن المثلنة لا تتمثل كما يظن الاعتقاد الشائع في أننا ننقّي الأشياء ونخصم منها كل صغير وثانوي، بل إن التركيز بصفة هائلة على إبراز الخاصيات الأساسية هو العامل الحاسم في جعل غيرها من الخاصيات يتوارى ويضمحل.
ويكمل بعد ذلك فيقول:
يُثري المرء في هذه الحالة كل شيء من زخمه الخاص: كل ما يرى، وكل ما يريد، يراه مكتنزًا، محتقنًا، قويًا، ممتلئًا بفائض من الطاقة. يُجري المرء، وهو في هذه الحالة، تحويلًا على الأشياء إلى أن تغدو مرآة لقوّته؛ -إلى أن تصبح انعكاسات لكماله. هذا التحول المرغَم إلى صورة للكمال- إنما هو الفن. وكل شيء، بما في ذلك ما ليس هو، يصبح ذلك موضوع متعة يجدها في نفسه: في الفن يستمتع الإنسان بنفسه ككمال.
أما بالنسبة للجمال فيقول:
ليس هناك ما هو أكثر نسبية وأكثر محدودية من إحساسنا بالجمال.
“الجمال في ذاته” كلمة خاوية لا غير، وليست حتى مجرد فكرة. في الجمال يتخذ الإنسان نفسه معيارًا للكمال، وهو لا يفعل في الحالات الجمالية المنتقاة سوى عبادة نفسه.
وعن علة الجمال يقول:
يعتقد الإنسان أن العالم يفيض جمالًا، وينسى نفسه كعلة لذلك الجمال. فهو وحده الذي منح العالم جمالًا؛ جمالًا إنسانيًا فحسب، جمالًا إنسانيًا مفرطًا في الإنسانية… وفي الحقيقة يعكس الإنسان نفسه في الأشياء، ويجد جميلًا كل ما يعيد إليه صورته الخاصة: حكمه بصفة “جميل” هو غرور النوع الذي ينتمي إليه.
ويتابع رأيه عن الجمال وعن علاقته بالقبح:
ليس هناك من شيء جميل ؛ الإنسان وحده هو الجميل: علم الجَمال بكليته يرتكز على هذه المقولة ؛ إنها حقيقته الأولى. ولنضف إليها حقيقة ثانية: ليس هناك من شيء قبيح سوى الإنسان في طور الفساد، -بهذا نكون قد رسمنا حدود حقل الحكم الجمالي-. ومن وجهة نظر العلوم الفيزيولوجية، كل قبيح يضعف ويفكر صفر الإنسان. إنه يذكره بالانهيار، وبالخطر، والعجز ؛ وبالفعل فهو يدفع ثمنًا لذلك خسارة في قواه.
فالقبح كما يقول نيتشه هو:
وبإمكاننا أن نقيس بالديناموميتر (مقياس الديناميكية) مفعول القبح. فحيثما يغدو المرء منهارًا، يستشعر حتمًا قرب شيء “قبيح”. فإحساسه بالقوة، وإرادة القوة لديه، وشجاعته ونخوته كلها تنهار مع القبح، وتعرف ارتفاعًا مع الجمال… وفي كلتي الحالتين نستطيع أن نستنتج الأمر نفسه: تكون بواكير الحالة (النذائر والإرهاصات) متراكمة بكمية هائلة داخل الغريزة.
وباختصار عن القبح يقول:
يتم إدراك القبيح كإشارة وعرض انحلال؛ وكل ما يذكّر عن قرب أو عن بعد بالانحلال يستدعي في ذهننا حكم “قبيح”.
وينهي كلامه قائلًا عن علة الشعور بالقبح:
وكل علامة انهاك، وثقل، وشيخوخة وإعياء، وكل ضرب من الإكراه المتجسد في هيأة تشنج عضلي أو شلل، وبصفة خاصة الرائحة واللون، ومظاهر الانحلال والتعفن، حتى في حالة اختزالها القصوى في هيئة رمز، -كل ذلك يستدعي نفس ردة الفعل: الحكم القيَمي “قبيح”. هناك حقد ينفجر ههنا: لكن، على من يحقد المرء؟ ليس هناك من مجال للشك هنا: إنه يحقد على انحطاط نوعه. يحقد هنا من عمق أعماق غريزة النوع ؛ وفي هذا الحقد رعدة، وحذر، وعمق رؤية، وبُعد نظر، -إنه الحقد الأكثر عمقًا على الإطلاق. وبسببه يكون الفن عميقًا.