الإنتاج الفني والسرديالمعرفة والفكر الفلسفي

فن التصوير و علاقة الصورة بالحقيقة عند سوزان سونتاغ

(سوزان سونتاغ) 1933 – 2004 ناقدة ومخرجة وروائية أميركية، في كتابها الأخير (الالتفات إلى آلام الآخرين)، الصادر بنسخته العربية بترجمة مجيد البرغوثي، تحدثت فيه عن فن التصوير وعلاقة الصورة بالحقيقة، وما تُضيفه اللقطة المأخوذة لمشهد الألم الإنساني على الشخص المتألم، وما تُحدثه الصورة، من ثم، في الناظر إليها.

تقول (سونتاغ):

إنّ الصور لا تُظهر في الواقع ماتفعله الحرب كحرب. إنها تُظهر طريقة محددة لشنّ الحرب، طريقة كانت توصف بأنها ” بربريّة ” يكون فيها المدنيّون هم الهدف.
إن صور الجثث المقطعة يمكن أن تستخدم لتفعيل إدانة الحرب، و قد توضح جزءاً من واقعها لأولئك الذين ليست لديهم خبرة في الحرب على الإطلاق.
وعن علاقة الصور بالصحافة تقول:
 إن كون المرء متفرّجاًً على الفواجع التي تقع في بلد آخر، تجربة جوهرية حديثة، و هي حصيلة تراكمية لما قدّمه خلال أكثر من قرن و نصف هؤلاء السياح المحترفون المتخصصون المعروفون باسم “الصحفيين”.    والحروب الآن هي مشاهد و أصوات توجد داخل غرفة المعيشة.
والمعلومات عما يحدث في مكان آخر والتي تسمّى “الأخبار” تبرز الصراع و العنف. وإذا كان هناك نزيف، فإنه يتصدر تلك الأخبار – كما يقول التوجيه المعتبر لدى صحف المجدولة و لدى العروض الإخبارية التي تستمر على مدى 24 ساعة يومياً- وتكون الاستجابة إما بالتعاطف أو السخط أو الدغدغة أو الاستحسان كلما ظهر بؤسٌ للعيان.
و في موضع آخر تقول:
فالصور مجنّدة كجزء من الصحافة و يُتوقع منها أن تأسر الانتباه، أو تفزِع أو تُدهِش. و قد عبّر عن هذا المعنى الشعار الإعلاني القديم لصحيفة باري ماتش الفرنسية التي تأسست في عام 1949: “ثقل الكلمات و صدمة الصور“. إن السعي لاصطياد صور أكثر إثارة  -كما توصف غالباً- هو مايحرك المشروع المتعلق بالتصوير، وهو جزء من الطبيعة العادية للثقافة التي أصبحت الصدمة فيها مثيراً رئيسياٍ للاستهلاك و مصدراً للقيمة.
الجمال إما أن يكون صاخباً أو لايكون” كما قال (أندريه بريتون). و قد وصف هذا المثال الجمالي بأنه “فوق واقعي-سريالي” و لكن ضمن إطار الثقافة التي تم تنقيحها جذرياً إثر صعود القيم التجارية، فإن المطالبة بأن تكون الصور مستفزة، صاخبة، وحتى مذهلة يبدو كأنه نوع من الواقعية المبدئية. كما أنه نوع من الحس التجاري الجيد.
و في أثر الصورة تقول:
 إن الصور المتواصلة بدون توقف في -التلفاز و المقاطع والأفلام- تحيط بنا، و لكن عندما يتعلق الأمر بالتذكر، فإن الصورة لها الأثرُ الأعمق. فالذاكرة تجمّد الصور. ووحدتها الأساسية هي الصورة المنفردة. وفي الحقبة المكتظة بالمعلومات؛ توفر الصورة أسلوباً سريعاً لفهم شيء مّا و شكلاً محدداً لحفظه، فالصورة تشبه القول المأثور أو الحكمة أو المثَل، و كل منا يخزن عقلياً مئات الصور القابلة للاستعادة بشكل فوري.
ماذا يعني إظهار الألم، كشيء مختلف عن الاعتراف به؟ تجيب:
إن تمثيل الألم من خلال التصوير الفني له تاريخ طويل. فالآلام التي يُنظر إليها في أغلب الأحيان على أنها جديرة بالتصوير هي التي تفهم على أنها ناجمة عن الغضب، سواءً كان إلهياً أو إنسانياً. فالمعاناة لأسباب طبيعية، كالمرض أو الولادة، نادراً ما جرى تمثيلها عبر تاريخ الفن، والمعاناة من الحوادث العرضية، لم تمثل على الإطلاق – كأنه ليس هناك ألم ينجم عن الإهمال أو سوء المغامرة.
و تتابع:
يبدو أن الشهية لرؤية الصور التي تُظهر الأجساد في حالة الألم تكاد تكون شبيهة في قوتها بالرغبة في رؤية الصور التي تظهر الأجساد و هي عارية.
من له الحق إذاً ؟ تقول:
ربما كان الأشخاص الوحيدون الذين لهم الحق في النظر إلى صور المعاناة من هذا المستوى المتطرف هم أولئك الذين بمقدورهم أن يقدموا شيئاً لتخفيف تلك المعاناة – كالأطباء الجراحين في المشفى العسكري الذي التقطت فيه الصورة – أو أولئك الذين يمكن أن يتعلموا منها. أما البقية منا فمتلصصون، سواءً قصدنا ذلك أو لم نقصد.
 وتكمل في موضع آخر:
إن الصور تُشيِّئ: أي انها تحول حادثةً ما إلى شيء يمكن امتلاكه. و الصور نوع من الكيمياء أيضًا، ولذلك كله تلقى التقدير كتعبير شفاف عن الواقع.
وتقول أيضًا:
إن ألفة صور معينة تبني إحساسنا بالحاضر و الماضي القريب. فالصور تضع أمامنا خطوطاً مرجعية.   وتخدمنا كرموز أو تمائم للأسباب. فتبلور العاطفة حول صورة ما أكثر احتمالاً من تبلورها حول شعار لغوي. و الصور تساعد في تركيب ومراجعة إدراكنا لماضٍ بعيد جداً، مع تحريك صدمات لاحقة بواسطة توزيع صور لم تكن معروفة آنذاك. إن الصور التي يتعرف عليها الجميع الآن جزءٌ لا يتجزآ مما يختار المجتمع أن يفكر فيه أو يصرح بأنه احتار التفكير فيه. وهو يسمي هذه الأفكار بـ”ذكريات”. و في ذلك على المدى البعيد، نوع من الوهم. و بتعبير أدق، لا يوجد شيء اسمه “الذاكرة الجماعية” فذلك ليس جزء من نفس عائلة الأفكار الزائفة كالإحساس الجماعي بالذنب. و لكن هناك وعي جماعي.
إن الذاكرة شأنها شأن فردي، لا يمكن إعادة إنتاجه، إنها تموت مع كل شخص. و مايُسمى بذاكرة جماعية ليس تذكراً و إنما نصاً: بأن هذا الأمر مهم، وهذه هي القصة عن كيفية حدوثه، مع صور تثبِّت القصة في أذهاننا، إن الأيدلوجيات تخلق مخزوناً محسوساً من الصور، الصور المعبرة عن التي تختزن الأفكار العامة الهامة، وتطلق أفكاراً و مشاعر يمكن التنبؤ بها.
ماذا نفعل بمثل هذه المعرفة حول الألم البعيد عنا كما تأتي بها الصور؟ توضح:
إن الناس يمكن أن ينغلقوا ليس لمجرد أنهم رأوا وجبة ثابتة من صور العنف جعلتهم لا مبالين، و لكن لأنهم خائفون. و كما يلاحظ الجميع، هناك مستوى من العنف و السادية اللذين يمكن قبولهما في الثقافة الجماعية في التلفاز، الأعمال الكوميدية، وألعاب الحاسوب.
فالصور التي كانت ستجد جمهوراً منكمشاً ومنزوياً باشمئزاز قبل أربعين عاماً، تشاهد الآن بطرفة عين من قبل كل شاب، وبشكل مضاعف. و بالفعل، إن الأذى يُمتع كثير من الناس في معظم الثقافات المعاصرة بدلاً من أن يصدمهم. و لكن لا يُشاهد العنف كله بدرجات متساوية من التباعد عنه، إن بعض الكوارث تعتبر موضوعات مناسبة للسخرية أكثر من سواها.
و تُورِد السبب لذلك، بقولها:
لأن الحرب، أي حرب، إذا لم يَبدُ أنه يمكن وقفها، فإن الناس يصبحون أقل استجابة لأهوالها.
إن التعاطف مع الآخرين عاطفة غير مستقرة. تحتاج إلى ترجمتها إلى فعل، و إلا ستذوب.
ثم تقول :
إن الناس لايعتادون على مايُعرض عليهم -إذا كان هذا هو الأسلوب الصحيح لوصف ما يحدث- بسبب كمية الصور التي تلقى عليهم. بل إنها السلبية التي تبلّد الأحاسيس.
وتكمل مقولتها:
طالما أننا نشعر بالتعاطف، فإننا نحس بأننا لسنا شركاء في أسباب الألم. إن تعاطفنا ينم عن براءتنا كما ينم عن عجزنا. إلى ذلك الحد، يمكن أن يكون تعاطفنا رغم نوايانا الطيبة. -استجابة وقحة – إن لم تكن غير مناسبة.
لنترك التعاطف الذي نقدمه للآخرين الواقعين في الحرب والسياسة الإجرامية جانباً، ولنتأمل كيف تقع امتيازاتنا على نفس الخارطة كآلامهم، قد نفضل على نحو ما عدم التخيل و ربط امتيازاتنا بآلامهم. تماما كما أن غنى البعض قد يعني ضمناً فقر آخرين – تبدو مهمة لا تقدم لنا الصور المؤلمة، المثيرة، إلا أنها شرارة البداية فقط.

تأمل فكرتين شائعتين – تقتربان الآن بسرعة من حالة التسطيح – حول تأثير فن التصوير. الفكرة الأولى: هي أن الاهتمام الشعبي موجّه بواسطة اهتمامات وسائل الإعلام  مما يعني، بشكل أكثر حسماً، الصور. فعندما تكون هناك صور، تصبح الحرب “واقعية”.

الفكرة الثانية:- قد تبدو عكس -ماوصفته للتو- تقول إنه في عالم مشبّع، بل مفرط في تشبعه بالصور، فإن تأثير الصور التي يجب أن تثير الاهتمام يتلاشى بالتدريج: فنصبح متبلدين.

وفي نهاية المطاف، تجعلنا مثل هذه الصور أقل قدرة على الإحساس، وعلى جعل ضمائرنا تشرئب.

وتطرح تساؤلاً حول ماهية المطلوب؟ هل نخفض صور المجازر إلى مرة أسبوعياً مثلاً؟ تجيب على ذلك:
لن تكون هناك لجنة من الحماة لتقنين الرعب، أو لتبقي قدرة دماثنا طازجة على الدوام.
والفظائع المرعبة نفسها لن تنقص.إن قدرتنا على الاستجابة لخبراتنا بنقاء عاطفي و ارتباط جمالي تصاب بالوهن من جراء النشر المتواصل للصور الفظة والمروعة – يمكن أن يسمى نقداً محافظاً لنشر مثل هذه الصور.
توصَف هذه الفكرة بأنها محافظة لأن الحس الواقعي هو الذي تآكل، و هناك واقع لايزال موجوداً بشكل مستقل عن محاولات إضعاف سلطانه. إن الفكرة تمثل دفاعاً عن الواقع و المعايير المعرضة للخطر والمتعلقة بالاستجابة على نحو أكمل لهذا الواقع.
و في خاتمة كتابها تُذكرنا:
أن لانتغير كلياً، وأن يكون في استطاعتنا أن نبتعد، نقلب الصفحة، ونغير قناة تلفازٍ لا تنفي القيمة الجمالية لهجوم تشنه الصور. و لا يُفترض في الصورة أن تصلح جهلنا بالتاريخ و أسباب المعاناة التي تلتقطها و تؤطرها. إن مثل هذه الصور لا يمكنها أن تكون أكثر من دعوة للانتباه، للتآمل، للتعلم، لفحص مبررات المعاناة التي تقدمها القوى الراسخة.
ليس هناك خطأ في الوقوف بعيداً و التفكير. وهنا أعيد صياغة أقوال عدة حكماء: ” لا أحد يستطيع أن يفكر و يضرب أحداً في نفس الوقت.
و في سطورها الأخيرة تقول:
نحن حقيقةً لا نستطيع أن نتخيل كم هي الحرب مخيفة، مرعبة، وكيف تصبح شيئاً عادياً. لا نستطيع أن نفهم، ولا نستطيع أن نتخيل.

هاجر العبيد

مشرفة نادي القراءة بطيبة، عضو مؤسس لنادي قبَس الثقافي بجامعة طيبة، مهتمّة بالعلوم الإنسانيّة و التَاريخ و الأديان.
زر الذهاب إلى الأعلى