آليات الكتابة، ونصائح في التعبيرالإنتاج الفني والسردي

الإلهام في الأدب والفن عند توفيق الحكيم

توفيق الحكيم

توفيق الحكيم (1898-1978) كاتب وأديب مصري، من رواد الرواية والكتابة المسرحية العربية ومن الأسماء البارزة في تاريخ الأدب العربي الحديث. في كتابه (أدب الحياة) والذي كان مجموعة من المقالات، عنوَن إحدى مقالاته بعنوان “الإلهام في الأدب والفن”. يقول فيها:
الإلهام في الأدب والفن
ما جوهره ؟
ما علمه ؟
سؤال ليس من السهل الإجابة عنه إجابة مباشرة، لأن صوره تختلف باختلاف الأدباء والفنانين.
ولكن أقرب القول فيه عندي، هو أن الإلهام ليس صانعًا للأثر الأدبي أو الفني، ولكنه كاشف عنه. فالأثر الفني يجب أن يكون موجودًا قبل الإلهام، لا في وضعه النهائي بالطبع، ولكن في شكل عناصر متفرقة، وأجزاء مبعثرة، مختفية في ضمير المبدع الفني، مثل ذلك الكنز المخبوء في جوف الأرض .. إنه موجود في مخبئه، وسيظل موجودًا إلى أن تعثر عليه يد المصادفة، أو يد الوسيط .. ولابد دائمًا من وسيط لفتح الكنوز العميقة.
يكمل بعد ذلك حديثه فيقول:
في الأدب والفن، أي في شؤون  الفكر والروح فإن الإلهام لا يظهر لنا في صورة كيان مادي، بل يبرق من خلال فكرة أو إحساس. قد يقول لنا أحيانًا بعض الشعراء : إن كائنًا بشريًا كالمرأة مثلًا قد ألهمهم، أو أن كيانًا ماديًا كالصحراء مثلا قد أوحى إليهم، ولكن الحقيقة أن الذي ألهمهم أو أوحى إليهم ليس المرأة ولا الصحراء بالذات. بل الإحساس الذي انبثق، والفكرة التي لمعت من خلالها.
فالإلهام الأدبي والفني هو إذن فكرة وإحساس، نور ونار، ضوء وحرارة.
هنا يأتي دور الفن .. فيشرع في الترتيب والتنظيم، والتنسيق.
ينتقل بعد ذلك إلى الإلهام، وسؤال أيمكن الاعتماد عليه وحده لإنتاج الفن الجميل:
مهما يكن من أمر الإلهام .. فما هو إلا مصباح .. مصباح في حجرة، ولا قيمة للمصباح إذا كانت الحجرة خاوية. المهم قبل كل شيء أن تحوي الحجرة شيئًا .. شيئًا ذا قيمة، حتى يجوز بعدئذ السؤال : كيف نبحث عن الكنوز ؟ بالنور أو بالعمل ؟
بقي أن نعرف كنه ذلك الثراء الذي يجب أن يوجد في خزائن الأديب أو الفنان !
هذا الثراء يتلخص في كلمة واحدة هي : المعرفة الإنسانية.
هي تلك التجارب المتراكمة، تكدست في خزائن الفنان أو الأديب عن طريق علمه العقلي، ودراسته وتفكيره وتأملاته، ثم عن طريق خبرته الشعورية والحسية، وتفاعله مع الحياة والكائنات.
قد يقول قائل : إن هذه المعارف موجودة في حياة كل إنسان، دون أن يكون من أجل ذلم أديبًا أو فنانًا. هذا صحيح ! بل لعله من عامة الناس من تحوي حياته ونفسه وعقله من هذه المعارف، ما لا يظفر ببعضه فنان أو أديب .. لا غرابة في ذلك !
إن المعارف والتجارب ما هي إلا عناصر متطايرة مبددة عند أغلب الناس، ولكنها عند الأديب أو الفنان تتماسك على نحو خاص، وتتخذ لها سمة ومعنى. وتصبح في خزائن نفسه شيئًا يشبه السبائك الملقاة في انتظار مطرقة الفن التي تصنع منها فيما بعد التماثيل الحية النابضة الخالدة.
وينهي مقالته أخيرًا بنظرته عن الأفق الإنساني لدى الأديب أو الفنان:
عند الأديب أو الفنان ما يمكن أن نطلق عليه (أفق الإنسانية). أي أن نظراته للأشياء لا يحدها الأفق الشخصي،، بل يحدها الأفق الإنساني، فهو يربط تجاريبه الخاصة بتجارب الإنسانية كافة. وهو لذلك يحوّل معرفته وخبرته إلى سبائك قد تنفع الإنسانية فيما بعد. وهو عندما يسجل وينشر ويذيع في الناس هذه الخبرة والمعرفة في صورة آثار فنية وأدبية، إنما يفعل ذلك مدفوعًا بتلك النظرة التي تميزه عن غيره .. تلك النظرة إلى الأفق الإنساني.
في حين أن الرجل العادي تقف نظرته عند حدود ظروفه وحياته الخاصة، دون أن يرى أو يحاول أن يرى أي ارتباط بين حياته وحياة البشرية.
لابد إذن أن توجد في خزائن الفنان أو الأديب ثروة فكرية وحسية ؛ حتى يستطيع الإلهام أن يفعل فعله فإذا كانت الخزائن فارغة فلا قيمة للإلهام. مهمة الإلهام مهمة ثانوية في عمل الأديب أو الفنان. لأن الأساس هو الكنز الدفين. وكل كنز لا يحوي بالضرورة كل شيء. لذلك لا يستطيع الإلهام أن يضيء كل شيء.

أحمد بادغيش

مدوّن، مهتم بالأدب والفلسفة والفنون.
زر الذهاب إلى الأعلى