أينشتاين والقوة السياسية للفن
"لا شيء يضاهي أثر الفن على النفس، ولا حتى الوصف الواقعي ولا النقاش الثقافي"
كتبت الكاتبة الإيرلندية (آيريس مردوك)، في خطاب اعتقالها عام ١٩٧٢م بعنوان “الفن كقوة مقاومة”، قائلةً «يخشى الحكام الطغاة الفن، إذ يريد الطغاة أن يُعقدوا الأمور لكن الفن يميل لتوضيح الأمور».
وقد قال الروائي النيجيري (تشينوا أتشبي) للروائي الآخر (جيمس بالدوين) في واحدة من أحاديثهم الرائعة المنسية “من يخبرونك ألا تخلط السياسة بالفن، هم نفسهم من يقنعون ويرضون بالوضع الحالي… فهم كأنما يقولون لا تزعج النظام”.
وقبل ذلك بجيل كامل، جلس (ألبرت آينشتاين)، في آخر سنواته، على مكتبه في نيوجيرسي وأخذ يكتب رسالة جياشة من التقدير وبث الطمأنينة للرسام اليهودي البولندي (سي لوين) الذي كان قد نشر لتوه عمل مفاجئٍ يجمع الفن والمقاومة.
ولد (سي لوين) قبل يوم الهدنة بأيام معدودة، وقد كان عمره خمس أعوام حين قرر أن يصبح رسامًا، أو حين علم في نفسه أنه رسام. وفي تلك السنين الأولى فرت عائلته من مكان لآخر حيث كان وضع اليهود في أوربا يزداد سوء على سوء. وبدأ (لوين) خلال فترة لجوئه في برلين يتلقى أولى دروسه الرسمية في الرسم من أحد مناصري الرسام الألماني (بول كلي)، مع تعرضه للنبذ والتنمر في المدرسة لكونه يهودي. ولقد تشكلت مخيلته الغضة وفهمه للعالم بقدر حبه للفن وبقدر المناخ السياسي الذي يفوح منه الحقد قبل أن يتحول إلى أحلك حرب شهدها العالم.
ولما فرّت عائلة (لوين) إلى أمريكا خوفًا من بطش (هتلر) كان (لوين) لا يزال مراهقًا. وحينما وصل نيويورك كان يحدوه الأمل في حياة جديدة مليئة بالفن وبعيدة عن الاضطهاد. وبدأ يتلقى دروساً في الرسم ويذهب إلى متحف الميتروبوليتن يوميًا.
حتى تعرض للضرب المبرح مرةً على يد شرطيٍ معادٍ للسامية، وسرعان ما راودته الفكرة المرعبة أنه لن يستطيع الفرار من الوحشية المتعصبة، وأن الفن لن يُفصل عن الواقع المضطرب للعالم مما دفعه للإقدام على محاولة انتحار.
بيد أنه نهض في وجه البواعث المدمرة بعزيمة كعزيمة (إبراهام لنكليون) وحول الظلام لدافعٍ للعمل ولتصحيح حال هدا العالم الوحشي المنكسر بنوره وضيائه.
وتطوع (لوين) في الجيش الأمريكي، في وحدة مخابرات سرية تتكون من مهاجرين يجيدون الألمانية، فسافروا إلى ألمانيا من أجل غزو ساحل النورماندي وهي العملية التي ارتكز عليها نجاح اليوم دي D-Day، وتحرير فرنسا، والهزيمة الكبرى للنازيين. وهناك قام (لوين) بالترجمة وتوضيح المنشورات والملصقات لجمع الجنود.
وقد مرّ (لوين) بواحد من أكبر معسكرات الإبادة السياسية بعد أن حُرر، ورأى ما حدث لأرواح لا تعد ولا تحصى لأناس كانوا مثله وتحدثوا نفس لغته وشاركوه نفس الأحلام، لقد رأى القدر الذي نجى منه بشق الأنفس حين فر إلى أمريكا كلاجئ.
وبعد عودته إلى نيويورك بجسم مصاب وروح مجروحة، قضى (لوين) ستة أشهر للتعافي في المستشفى، ومن ثم صب روحه الناجية في مجموعة من اللوحات المثيرة للمشاعر بلغت 55 لوحة بعنوان The Parade تحكي ما تخلفه الحروب من دمار للروح.
وقد رأى (آينشتاين) تلك اللوحات، ومن غير الواضح كيف رآها، لكن غالبًا عن طريق المصورة (لوت جاكوبي)، التي عرضتهم في معرضها بنيويورك.
ورغم تأثير اللوحات على من رأوها، فإنها أصبحت طي النسيان والإبهام حتى أعيد اكتشافها بعد نصف قرن ونشرت في آخر عام من حياة (لوين) في كتاب Si Lewen’s Parade: An Artist’s Odyssey
وافُتتح الكتاب بالرسالة التي كتبها (آينشتاين) عام 1951 لـ(لوين)، وهي تعد أكثر بيان مثير للعاطفة كتبه (آينشتاين) عن القوة السياسية للفن وجاءت على النحو الآتي:
أجد أن عملك الفني The Parade غايةً في الإعجاب إذا ما نظرنا إليه بعينٍ فنية. وأكثر إعجابًا هو محاربتك التوجهات الموالية للحرب عبر روح الرسم. لا شيء يضاهي أثر الفن الجيد على النفس، ولا حتى الوصف الخيالي ولا النقاش الثقافي. دائما ما يُقال إن الفن يجب ألا يستخدم في الأغراض السياسية. لكني لا أتفق مطلقاً مع هذا الرأي.
ويضيف (آينشتاين): “لا شك أن فرض توجه فكري أو تعبير معينان على الفنان من الخارج أمر خاطئٌ ومنفر. لكن ميول الفنان العاطفية القوية غالباً ما تولد أعمالاً فنية عظيمة. لا يسعني سوء التفكير في لوحات الفنان (أونوريه دومييه) ضد السياسات الفرنسية الفاسدة في عصره. وزمننا هذا في حاجة لك يا لوين ولأعمالك الفنية”.
وقد توفي (لوين) قبل أيام من إعادة نشر عمله The Parade ذلك قبل انتخابات عام 2016م. ولم يُكتب له أن يعيش ليرى البلاد التي أوته تنهار إلى جمهورية من العنصرية والرهاب من الغير لمدة 4 سنوات. لكنه لم يُكتب له العيش أيضا ليرى نجاة البلاد في الانتخابات التالية من رئيسٍ كان، في عصر غير العصر وفي مكان غير المكان، ليفنى في معسكر اعتقال.
[المصدر]
ترجمة: عبدالرحمن نصر الدين مراجعة: أحمد بادغيش