الإنتاج الفني والسردي

يعقوب صنّوع وبدايات الكوميديا الساخرة في العالم العربي

370

ليس من السهل أنْ أروي قصة مسرحي، ذلك المسرح الذي كان في الواقع يستدر دموع الفرح من عيني، غير أنها كانت في الغالب مصحوبة بالألم. وُلِدَ هذا المسرح في مقهى كبير، كانت تعزف فيه الموسيقى في الهواء الطلق، وذلك في وسط حديقتنا الجميلة (الأزبكية) في ذلك الحين، أي في سنة 1870، كانت ثمة فرقة فرنسية قوية تتألَّف من الموسيقيِّين والمطربين والممثلين، وفرقة تمثيلية إيطالية، وكانتا تقومان بتسلية الجاليات الأوروبية في القاهرة، وكنت أشترك في جميع التَّمثيليات التي تُقَدَّمُ في ذلك المقهى… وإذا كان لا بد لي من أنْ أعترف، فلأقل إذا إنَّ الهزليات والملاهي والغنائيات والمسرحيات العصرية التي قُدِّمت على ذلك المسرح هي التي أوحت إليَّ بفكرة إنشاء مسرحي العربي. – يعقوب صنّوع

كان القرن التاسع عشر يشرف على نهايته حين ظهرت لأول مرة محاولات جادة لتأسيس قاعدة للفن الغنائي المسرحي العربي والخروج من عادة تخصيص الغناء لإحياء الأفراح والموالد والملاهي .. وكان أغلب أصحاب هذه المحاولات -أمثال جورج أبيض ومارون النقاش– ممن زاروا أوروبا وفتنوا بفن المسرح الغنائي هناك، فاقتصرت محاولاتهم على ترجمة الأعمال المسرحية الغربية مثل : أوديب الملك وشارل السادس وعطيل، وتمثيل بعض القصص الكلاسيكية العربية مثل: هارون الرشيد، وصلاح الدين الأيوبي.. ولأن طبيعة تلك المسرحيات كانت بعيدة جدًا عن مستوى تذوق الفرد العربي للفن، وبعيدة كل البعد عن طبيعة حياته ومعاناته، فلم يستطع العرب تشرّبها ومن ثم التغنّي بها وإعدادها وسيلةً للتعبير!

وفي تلك الفترة أيضًا ظهر بمصر يعقوب صنّوع، الذي يُعد من قِبل الكثير من الباحثين هو المؤسس الحقيقي للمسرح العربي، لأنه قدّم للجمهور المصري مسرحيات تتعلق بمشاكلهم الاجتماعية والسياسية، واستخدم فيها اللغة العامية وأيضًا الأغاني والرقصات الشعبية.. فكانت إحدى مسرحياته -مثلًا- تتحدث عن تعدد الزوجات أسماها “الدّرتين”، وتتكون هذه المسرحية من فصل واحد مختوم بالجملة الغنائية:

اللي بده يعيش عيشة مرّة، يدخّل على أم ولاده ضرّة.. أما اللي يعيش فرحان، ما يعملوش قلادة من النسوان

image

وهكذا حاول “صنوع” لأول مرة صناعة الفن المسرحي والغنائي بالعالم العربي، وبالطبع كانت مهمته ثقيلة لأبعد حدّ إن لم تكن تعجيزية، فكان يعقوب يقوم كل مرة بشرح فكرة “فن التمثيل المسرحي” و فكرة “فن الغناء” للجمهور قبل أن تبدأ المسرحية! لأنهم ببساطة لم يعلموا شيئًا عن المسرح بعد… ولم يكن لديه أي ممثلين أو ملحنين أو مغنين في بادئ الأمر، لأنه لم يوجد هناك أحد ليمثل أو يلحّن بمصر.. فاشتغل هو أيضًا باكتشاف المواهب التمثيلية والغنائية، واضطر لأن يعطي أدوار النساء والفتيات لصبيان يافعي العمر في البداية، حتى وجد فتاتين متشردتين فاستطاع إقناعهن أن يشاركن بالتمثيل والغناء..

بهذه الطريقة كوّن يعقوب جوقته وقدم مسرحياته وذاع صيته حتى سمع به حاكم مصر “الخديوي إسماعيل” واستقطبه لأداء المسرحيات بقصره، وظلّ على هذا الحال سنوات قليلة إلى أن نُفي من مصر في أواخر القرن التاسع عشر بعد أن قدم مسرحية ساخرة باسم “الوطن والحرية” والتي سخر فيها من فساد القصر والنظام الحاكم (ويمكن اعتبار هذه المسرحية فاتحة فن الكوميديا الساخرة بالعالم العربي).. إلا أن فكرة المسرح العربي لم تُنف مع يعقوب صنوع.. بل استَشْرَت، وأخذت الجوقات المسرحية تتكاثر في بداية القرن العشرين، فظهرت جوقة سلامة حجازي وجوقة منيرة المهدية وجوقة علي الكسار و نجيب الريحاني.. وكانت جميع هذه الجوقات تؤدي ما يسمى بـ”الرواية” الملحّنة، وهي مسرحية غنائية قصيرة تؤدى على المسرح الذي كان يسمى آن ذاك بالـ”تياترو” (التسمية الإيطالية للمسرح).. لكن مواضيع تلك الروايات ومستواها الفني لم يرتق لجذب جميع فئات الشعب واستقطابها إلى أن جاء “السيد درويش” في العقد الثاني من القرن العشرين، حاملًا معه التغيير على كافة الأصعدة والمستويات الغنائية والمسرحية.

للاستزادة: يعقوب صنوع في ويكيبيديا / يعقوب صنوع في موقع المعرفة  / موقع اللغة والثقافة العربية

زر الذهاب إلى الأعلى