اندريه تاركوفيسكي و “النحت في الزمن “
أندري تاركوفسكي (1932-1986) مخرج وممثل وكاتب روسي، و منظر سينمائي ومدير أوبرا. ولد (تاركوفسكي) في مدينة زفراجيه الروسية الواقعة على ضفاف نهر الفولغا، والده هو الشاعر الروسي (أرسيني تاركوفسكي)، والدته (مايا ايفانوفنا فيشيناكفا). يعدّ (تاركوفيسكي) أيقونة سينمائية مهمة جداً ويُعتبر من أفضل المخرجين في تاريخ السينما . له العديد من الأفلام مثل (طفولة إيفان) عا 1962 و(المرآة) عام 1975. صدر له أيضاً عدداً من المؤلفات منها (النحت في الزمن) عام 1986 والذي ناقش فيه آراؤه حول السينما و صناعة الأفلام، و شارك فيه بعض تأملاته في أفلامه.
يعتبر (تاركوفيسكي) نفسه شاعراً أكثر من كونه مخرجاً و تربطه علاقة قوية بالشعر، وفي واحد من آرائه جاء:
ﺣﻴﻦ ﺃﺗﺤﺪﺙ ﻋﻦ ﺍﻟﺸﻌﺮ ﻓﺈﻧﻨﻲ ﻻ ﺃﻧﻈﺮ إليه ﻛﻨﻮﻉ ﺃﺩﺑﻲ. ﺍﻟﺸﻌﺮ ﻫﻮ ﺍﻟﻮﻋﻲ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ، ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﻟﻼﺗﺼﺎﻝ ﺑﺎﻟﻮﺍﻗﻊ. ﻫﻜﺬﺍ ﻳﺼﺒﺢ ﺍﻟﺸﻌﺮ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﺗﺮﺷﺪ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻃﻮﺍﻝ ﺣﻴﺎﺗﻪ.
في نظره فإن لكل نوع من أنواع الفنون قيمته الخاصة و أغراضه الخاصة التي يقدمها للبشري:
ﻟﻜﻞ ﻓﻦ ﻣﻌﻨﺎﻩ ﺍﻟﺸﻌﺮﻱ ﺍﻟﺨﺎﺹ، ﻭ ﺍﻟﺴﻴﻨﻤﺎ ليست استثناء. ﺇﻥ ﻟﻬﺎ ﺩﻭﺭﺍً ﺧﺎصاً، ﻗﺪﺭﺍً ﺧﺎﺻﺎً. ﻟﻘﺪ ﻧﺸﺄﺕ ﺍﻟﺴﻴﻨﻤﺎ ﻣﻦ أﺟﻞ ﺃﻥ ﺗﻌﺒّﺮ ﻋﻦ ﻣﺠﺎﻝ ﻣﻌﻴﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻣﻌﻨﺎﻫﺎ، ﺣﺘﻰ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻮﻗﺖ، ﻟﻢ ﻳﺠﺪ ﺗﻌﺒﻴﺮﻩ ﻓﻲ ﺃﻱ ﺷﻜﻞ ﻓﻨﻲ ﻗﺎﺋﻢ. ﻛـﻞ ﺷـﻲء ﺟﺪﻳـﺪ ﻓـﻲ ﺍﻟﻔـﻦ ﺍﻧﺒﺜﻖ ﺍﺳﺘﺠﺎﺑﺔ ﻟﺤﺎﺟﺔ ﺭﻭﺣﻴﺔ، ﻭﻭﻇﻴﻔﺘﻪ ﺃﻥ ﻳﻄﺮﺡ ﺗﻠﻚ ﺍﻷﺳﺌﻠﺔ ﺍﻟﺘـﻲ ﻫـﻲ ﻣﺘﺼـﻠﺔ ﻋﻠـﻰ ﻧﺤﻮ ﺑﺎﺭﺯ ﻭﺭﻓﻴﻊ ﺑﺰﻣﻨﻨﺎ. ﻟﻘﺪ ﻧﺸﺄﺕ ﺍﻟﺴﻴﻨﻤﺎ ﻣﻦ أﺟﻞ ﺃﻥ ﺗﻌﺒّﺮ ﻋﻦ ﻣﺠﺎﻝ ﻣﻌﻴﻦ ﻣـﻦ ﺍﻟﺤﻴـﺎﺓ ﺍﻟﺘـﻲ ﻣﻌﻨﺎﻫـﺎ، ﺣﺘﻰ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻮﻗﺖ، ﻟﻢ ﻳﺠﺪ ﺗﻌﺒﻴﺮﻩ ﻓﻲ ﺃﻱ ﺷﻜﻞ ﻓﻨﻲ ﻗﺎﺋﻢ. ﻛـﻞ ﺷـﻲء ﺟﺪﻳـﺪ ﻓـﻲ ﺍﻟﻔـﻦ ﺍﻧﺒﺜﻖ ﺍﺳﺘﺠﺎﺑﺔ ﻟﺤﺎﺟﺔ ﺭﻭﺣﻴﺔ، ﻭﻭﻇﻴﻔﺘﻪ ﺃﻥ ﻳﻄﺮﺡ ﺗﻠﻚ ﺍﻷﺳﺌﻠﺔ ﺍﻟﺘـﻲ ﻫـﻲ ﻣﺘﺼـﻠﺔ ﻋﻠـﻰ ﻧﺤﻮ ﺑﺎﺭﺯ ﻭﺭﻓﻴﻊ ﺑﺰﻣﻨﻨﺎ.
و قد بيّن (تاركوفيسكي) الفرق بين السينما و الأدب، و إمكانيات تحويل المادة الأدبية إلى مادة فيلميّة:
ﻓــﻲ ﺍﻟﺒــﺪء ﻳﺘﻌــﻴﻦ ﻋﻠــﻲ ﺍﻟﻘــﻮﻝ ﺑــﺄﻥ ﻟــﻴﺲ ﻛــﻞ عمل ﻧﺜــﺮﻱ ﻗﺎﺑــﻞ ﻟﻠﺘﺤﻮﻳــﻞ ﺍﻟــﻰ ﺍﻟﺸﺎﺷﺔ. ﺑﻌﺾ ﺍﻷﻋﻤﺎﻝ ﺍﻷﺩﺑﻴﺔ ﺫﺍﺕ ﻭﺣﺪﺓ ﻛﺎﻣﻠﺔ، ﺗﺤﺘﻮﻱ ﻋﻠﻰ ﺻﻮﺭ ﺃﺩﺑﻴﺔ ﺃﺻﻴﻠﺔ ﻭﺩﻗﻴﻘﺔ، ﻭﺍﻟﺸﺨﺼﻴﺎﺕ ﻣﺮﺳﻮﻣﺔ ﺑﺤﻴﺚ ﺗﺤﻤﻞ ً ﻻ ﻳﺴـﺒﺮ ﻏﻮﺭﻫـﺎ، ﻭﻟﻠﺘﻜـﻮﻳﻦ ﻗـﺪﺭﺓ ﺍﺳـﺘﺜﻨﺎﺋﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻹﻓﺘﺎﻥ. ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻫﻮ ﻛﻞ ﻻ ﻳﺘﺠﺰﺃ، ﻭﻋﺒﺮ ﺍﻟﺼﻔﺤﺎﺕ ﺗﻮﺟﺪ ﺍﻟﺬﺍﺗﻴـﺔ ﺍﻟﻔـﺬﺓ ﻭﺍﻟﻤﺪﻫﺸﺔ ﻟﻠﻤﺆﻟﻒ. ﺇﻥ ﻛﺘﺒﺎً ﻛﻬﺬﻩ ﺗﻌﺪ ﺗﺤﻔﺎ ﻓﻨﻴﺔ، ﻭﻓﻘﻂ ﺫﺍﻙ ﺍﻟﺬﻱ ﻻ ﻳﺒﺪﻱ ﺍﻛﺘﺮﺍﺛـﺎً ﺑـﺎﻟﻨﺜﺮ ﺍﻟﺮﻓﻴﻊ ﻭﺑﺎﻟﺴﻴﻨﻤﺎ ﻣﻌﺎً ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﺘﺼﻮﺭ ﺇﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﺗﺤﻮﻳﻠﻬﺎ إﻟﻰ ﺍﻟﺸﺎﺷﺔ. ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻬﻢ ﻫﻨﺎ ﺗﻮﻛﻴﺪ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻨﻘﻄﺔ ﻷﻥ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻗﺪ ﺣﺎﻥ ﻟﻔﺼـﻞ ﺍﻷﺩﺏ عن ﺍﻟﺴـﻴﻨﻤﺎ ﻧﻬﺎﺋﻴﺎً ﻭﻋﻠﻰ ﻧﺤﻮ ﺣﺎﺳﻢ. ﺑﻌــﺾ ﺍﻷﻋﻤــﺎﻝ ﺍﻟﻨﺜﺮﻳــﺔ ﻣﺒﻨﻴــﺔ ﺑﻮﺍﺳــﻄﺔ ﺍﻷﻓﻜــﺎﺭ، ﻭﻭﺿــﻮﺡ ﻭﻣﺘﺎﻧــﺔ ﺍﻟﺒﻨــﺎء، ﻭﺟــﺪﺓ ﺍﻟﻤﻮﺿﻮﻉ. ﻛﺘﺎﺑﺔ ﻛﻬﺬﻩ ﻻ ﺗﺒﺪﻭ ﻣﻌﻨﻴﺔ ﺑـﺎﻟﺘﻄﻮﺭ ﺍﻟﺠﻤـﺎﻟﻲ ﻟﻠﻔﻜـﺮ ﺍﻟـﺬﻱ ﺗﺘﻀـﻤﻨﻪ.
من ناحية أخرى تحدّث (تاركوفيسكي) عن تأرجح السينما بين أن يكون مادة فنية لها معناها السامي و بين أن يكون سلعة تجارية الغرض الأساسي منها تحقيقة الربح فيكفّ بذلك عن تحقيق غاياته التي نشأ من أجلها:
ﻣﻮﻗﻊ ﺍﻟﺴﻴﻨﻤﺎ ﺍﻟﻤﻠﺘﺒﺲ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻔﻦ ﻭﺍﻟﺼﻨﺎﻋﺔ ﻳﻔﺴﺮ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻷﺷﻴﺎء ﺍﻟﺸﺎﺫﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﺒﺪﻉ ﻭﺍﻟﺠﻤﻬﻮﺭ.ﺍﻧﻄﻼﻗﺎً ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ، ﺍﻟﻤﺴـﻠﻢ ﺑﻬـﺎ ﻋﻠـﻰ ﻧﺤـﻮ ﻋـﺎﻡ، ﺃﺭﻳﺪ ﺃﻥ ﺍﻧﻈﺮ إﻟﻰ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﺃﻭ ﺇﺛﻨﺘﻴﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﻌﻮﺑﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻮﺍﺟـﻪ ﺍﻟﺴـﻴﻨﻤﺎ، ﻭﺍﺳـﺘﻨﻄﻖ ﺑﻌـﺾ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻮﺿﻊ. ﻛﻞ ﺻﻨﺎﻋﺔ، ﻛﻤﺎ ﻧﻌﻠﻢ، ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﺤﻴﺎﺓ ﻭﻟﻠﻨﻤﻮ.ﻭﻟﻜﻲ ﺗﻌﻤـﻞ ﻭﺗﺘﻄـﻮﺭ، ﻳﻜﻔﻲ ﺃﻥ ﺗﺴﺘﺮﺟﻊ ﻣﺎ ﺃﻧﻔﻘﺘﻪ ﺑﻞ ﺃﻥ ﺗﺤﻘـﻖ ﺭﺑﺤـﺎً ﻣﺆﻛـﺪﺍً. والفيلم بوصفه ﺳـﻠﻌﺔ، ﻗـﺪ ﻳــﻨﺠﺢ ﺃﻭ ﻳﻔﺸــﻞ، ﻭﻗﻴﻤﺘــﻪ ﺍﻟﺠﻤﺎﻟﻴــﺔ ﺗﺘﻮﻃــﺪ ﻋﻠــﻰ ﻧﺤــﻮ ﻣﺘﻨــﺎﻗﺾ ﻇﺎﻫﺮﻳــﺎ، ﻭﻓﻘــﺎ ﻟﻠﻌــﺮﺽ ﻭﺍﻟﻄﻠﺐ، ﻭﺣﺴﺐ ﻗﻮﺍﻧﻴﻦ ﺍﻟﺴﻮﻕ ﺍﻟﺼﺮﻳﺤﺔ. ﻭﺗﺠﺪﺭ ﺍﻹﺷﺎﺭﺓ ﻫﻨﺎ ﺇﻟﻰ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺘﻌﺮﺽ ﻓﻦ ﺁﺧﺮ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﺴﻴﻨﻤﺎ ﺍﻟﻰ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﻮﻉ ﻣﻦ ﺍﻟﺸﺮﻭﻁ ﻭﺍﻟﻤﻌﺎﻳﻴﺮ. ﻭﻃﺎﻟﻤﺎ ﺃﻥ ﺍﻟﺴﻴﻨﻤﺎ ﺗﻈﻞ ﻓﻲ ﻭﺿﻌﻬﺎ ﺍﻟﺤﺎﻟﻲ ﻓﺴﻮﻑ ﻟﻦ ﻳﻜﻮﻥ ﺳـﻬﻼً ﺃﺑـﺪﺍً ﻟﻠﻌﻤـﻞ ﺍﻟﺴﻴﻨﻤﺎﺋﻲ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﺃﻥ ﻳﺮﻯ ﺍﻟﻨﻮﺭ، ﻭﻟﻴﺲ ﻓﻘﻂ ﺃﻥ ﻳﺼﻞ ﺍﻟﻰ ﺟﻤﻬﻮﺭ ﺃﻭﺳﻊ.
ﻃﺒﻌﺎً ﺍﻟﻤﻘﺎﻳﻴﺲ ﺍﻟﻤﻌﺘﻤﺪﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﺑﻮﺍﺳـﻄﺘﻬﺎ ﻳﺘﻤﻴـﺰ ﺍﻟﻔﻨـﻲ ﻋـﻦ ﺍﻟﻼﻓﻨـﻲ ﺃﻭ ﺍﻟﺰﺍﺋـﻒ ﻫﻲ ﻧﺴﺒﻴﺔ، ﻏﻴﺮ ﻭﺍﺿﺤﺔ، ﻭﻳﺘﻌـﺬﺭ ﺍﻟﺒﺮﻫﻨـﺔ ﻋﻠﻴﻬـﺎ إلـﻰ ﺣـﺪّ ﺃﻥ ﻻ ﺷـيء ﻳﻤﻜـﻦ ﺃﻥ ﻳﻜـﻮﻥ ﺃﺳﻬﻞ ﻣﻦ ﺍﺳـﺘﺒﺪﺍﻝ ﺍﻟﻤﻌـﺎﻳﻴﺮ ﺍﻟﺠﻤﺎﻟﻴـﺔ ﺑﻤﻘـﺎﻳﻴﺲ ﻣﻨﻔﻌﻴـﺔ ﻣﺤﻀـﺔ ﻓـﻲ ﺍﻟﺘﻘﻴـﻴﻢ، ﻭﻫـﺬﻩ ﺍﻟﻤﻘﺎﻳﻴﺲ ﺗﻤﻠﻴﻬﺎ ﺍﻟﺮﻏﺒﺔ ﻓﻲ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﺃﺿﺨﻢ ﺭﺑﺢ ﻣـﺎﻟﻲ ﻣﻤﻜـﻦ ﺃﻭ ﺑـﺪﺍﻓﻊ ﺇﻳـﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻲ ﻣـﺎ ،ﻭﻛﻼﻫﻤﺎ، ﻋﻠﻰ ﺣﺪ ﺳﻮﺍء، ﺑﻌﻴﺪ ﺗﻤﺎﻣﺎً ﻋﻦ ﻏﺎﻳﺔ الفن؟
فيما بعد أكمل متسائلاً عن العوامل التي توجّه ذوق الجمهور و ما يريده من السينما:
ﺑــﺎﻟﻄﺒﻊ ﺍﻟﻌﻮﺍﻣــﻞ ﺍﻟﺴﻮﺳــﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ (ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻋﻴــﺔ)ﺗﻠﻌــﺐ ﺩﻭﺭﺍً ﻫﻨــﺎ، ﻭﺇﻻ ﻟــﻢ ﺗﺘﻮﺟــﻪ ﺟﻤﺎﻋﺎﺕ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺱ إﻟﻰ ﺍﻟﻔﻦ ﻣﻦ أﺟﻞ ﺍﻟﺘﺴﻠﻴﺔ ﻓﻘﻂ، ﻓﻲ ﺣﻴﻦ ﻳﺒﺤﺚ ﺁﺧـﺮﻭﻥ ﻋـﻦ ﺣـﻮﺍﺭ ﻓﻜﺮﻱ؟ ﻟﻤﺎﺫﺍ ﻳﻘﺒﻞ ﺍﻟﺒﻌﺾ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺳﻄﺤﻲ ﻭ”ﺟﻤﻴﻞ” ﻇﺎﻫﺮﻳﺎً ﻛﺸﺊ ﺣﻘﻴﻘـﻲ ﻣـﻊ ﺍﻧـﻪ ﺳﻮﻗﻲ ﻭﺭﺩﺉ ﻭﻣﺒﺘﺬﻝ ﻭﻓﻆ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻫﻨﺎﻙ ﺁﺧﺮﻭﻥ ﻣﺆﻫﻠـﻮﻥ ﻟﺘﻠﻘـﻲ ﺍﻟﺘﺠﺮﺑـﺔ ﺍﻟﺠﻤﺎﻟﻴـﺔ ﻋﻠـﻰ ﻧﺤﻮ ﺣﻘﻴﻘﻲ؟ﺃﻳﻦ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻧﺒﺤـﺚ ﻋـﻦ ﺃﺳـﺒﺎﺏ ﺍﻟﺼـﻤﻢ ﺍﻟﺠﻤـﺎﻟﻲ –ﻭﺍﻷﺧﻼﻗـﻲ ﺃﺣﻴﺎﻧـﺎً – ﻷﻋﺪﺍﺩ ﺿﺨﻤﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺱ ؟ﺫﻧﺐ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ؟ ﻭﻫﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻤﻜﻦ ﻣﺴﺎﻋﺪﺓ ﻣﺜﻞ ﻫـﺆﻻء ﺍﻟﻨـﺎﺱ ﻋﻠﻰ ﺍﻛﺘﺸﺎﻑ ﺍﻹﻟﻬﺎﻡ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻝ ﻭﺍﻟﺒﻮﺍﻋﺚ ﺍﻟﻨﺒﻴﻠﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻄﻠﻘﻬـﺎ ﺃﻭ ﻳﺜﻴﺮﻫـﺎ ﺍﻟﻔـﻦ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘـﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﻔﺲ؟
أمّا عن الزمن و أشكاله وخصائصه، و دوره في التجربة الإنسانية فقد كتب:
ﻳﻘﺎﻝ ﺃﻥ ﺍﻟﺰﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﻗﺎﺑـﻞ ﻟﻺﻟﻐـﺎء، ﻭﻫـﺬﺍ ﺻـﺤﻴﺢ ﺗﻤﺎﻣـﺎً ﺇﺫﺍ ﻛـﺎﻥ ﻳﺘﺼـﻞ ﺑﺎﻟﻤﺎﺿـﻲ، ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺃﻧﻚ “ﻻ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﺗﻌﻴﺪ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ” ﻛﻤـﺎ ﻳﻘﻮﻟـﻮﻥ. ﻟﻜـﻦ ﻣـﺎ ﻫـﻮ ﻫـﺬﺍ “ﺍﻟﻤﺎﺿـﻲ” ﺑﺎﻟﻀﺒﻂ ؟ ﻫﻞ ﻫﻮ ﻣﺎ ﻗﺪ ﻣﻀﻰ؟ ﻭﻣﺎ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻌﻨﻴﻪ “ﻣﻀﻰ” ﻟﻠﺸﺨﺺ ﺣﻴﻦ ﻳﻜـﻮﻥ ﺍﻟﻤﺎﺿـﻲ، ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻜﻞ ﻭﺍﺣﺪ ﻣﻨﺎ، ﻫﻮ ﺍﻟﺤﺎﻣﻞ لكل ﻣﺎ ﻫـﻮ ﻣﺴـﺘﻤﺮ ﻓـﻲ ﻭﺍﻗـﻊ ﺍﻟﺤﺎﺿـﺮ، ﻟﻜـﻞ ﻟﺤﻈـﺔ ﺟﺎﺭﻳﺔ ؟ ﺑﻤﻌﻨـﻰ ﻣـﺎ، ﺍﻟﻤﺎﺿـﻲ ﺃﻛﺜـﺮ ﺣﻘﻴﻘﻴـﺔ، ﺃﻛﺜـﺮ ﺭﺳـﻮﺧﺎً ﻭﺍﺳـﺘﻘﺮﺍﺭاً، ﺃﻛﺜـﺮ ﻣﺮﻭﻧـﺔ ﻣـﻦ ﺍﻟﺤﺎﺿﺮ. ﺍﻟﺤﺎﺿﺮ ﻳﻨﺰﻟﻖ ﻭﻳﺘﻼﺷﻰ ﻛﺎﻟﺮﻣﻞ ﺑﻴﻦ ﺍﻷﺻﺎﺑﻊ، ﻣﺤﺮﺯﺍً ﺛﻘﻼً ﻣﺎﺩﻳﺎً ﻓﻘـﻂ ﻓـﻲ ﺗـﺬﻛﺮﻩ. ﺇﻥ ﺧﻮﺍﺗﻢ ﺍﻟﻤﻠﻚ ﺳـﻠﻴﻤﺎﻥ ﻛﺎﻧـﺖ ﺗﺤﻤـﻞ ﻫـﺬﺍ ﺍﻟﻜـﻼﻡ ﺍﻟﻤﻨﻘـﻮﺵ “ﺍﻟﻜـﻞ ﺳـﻮﻑ ﻳﻤﻀـﻲ“. ﺑﺎﻟﺘﺒﺎﻳﻦ ﻣﻊ ﻫﺬﺍ، ﺃﺭﻳﺪ ﺃﻥ ﺃﻭﺟﻪ ﺍﻻﻧﺘﺒـﺎﻩ إلى ﻛﻴﻔﻴـﺔ ﺍﺭﺗـﺪﺍﺩ ﺍﻟـﺰﻣﻦ ﻭﻋﻮﺩﺗـﻪ إلى ﺍﻟـﻮﺭﺍء. ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﺰﻣﻦ ﺃﻥ ﻳﺰﻭﻝ ﺑﻼ ﺃﺛﺮ، ﻧﻈﺮﺍً ﻷﻧﻪ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺫﺍﺗﻲ، ﺭﻭﺣﻲ. ﺍﻟﺰﻣﻦ ﺍﻟﺬﻱ ﻋﺸﻨﺎﻩ ﻳﺴـﺘﻘﺮ ﻓﻲ ﺭﻭﺣﻨﺎ ﻛﺘﺠﺮﺑﺔ ﻣﻮﺿﻮﻋﺔ ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﺰﻣﻦ.
بحث تاركوفيسكي في تشكّل المعرفة الإنسانية ، و دور الفن في تحقيق ذلك
ﺑﺎﻟﻤﻌﻨﻰ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ، ﻛﻞ ﻓﺮﺩ ﻳﺨﺘﺒﺮ ﻟﻨﻔﺴﻪ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﻣﻌﺮفة ﺍﻟـﺬﺍﺕ ﻓﻴﻤـﺎ ﻫـﻮ ﻳﺘﻮﺻـﻞ ﺇﻟﻰ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻭﻧﻔﺴﻪ ﻭﺃﻫﺪﺍﻓﻪ. ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ، ﻛـﻞ ﺷـﺨﺺ ﻳﺴـﺘﻔﻴﺪ ﻣـﻦ ﺧﻼﺻـﺔ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓـﺔ ﺍﻟﻤﺘﺮﺍﻛﻤﺔ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﺍﻟﺠﻨﺲ ﺍﻟﺒﺸﺮﻱ، ﻟﻜﻦ ﻣـﻊ ذلك ﻓـﺈﻥ ﺗﺠﺮﺑـﺔ ﻣﻌﺮﻓـﺔ ﺍﻟـﺬﺍﺕ ﺍﻷﺧﻼﻗﻴـﺔ ﻭﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻳﺔ ﻫﻲ ﺍﻟﻐﺎﻳﺔ ﺍﻟﻮﺣﻴﺪﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻟﻜـﻞ ﻓـﺮﺩ. و ذاتياً، ﻫـﻲ ﻣﺨﺘﺒـﺮﺓ ﻓـﻲ ﻛـﻞ ﻣـﺮﺓ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﺷﻴﺌﺎً ﺟﺪﻳﺪﺍً . ﺇﻥ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻳﻘﻴﻢ، ﺍﻟﻤﺮﺓ ﺗﻠـﻮ ﺍﻷﺧـﺮﻯ، ﻋﻼﻗـﺔ ﻣﺘﺒﺎﺩﻟـﺔ ﺑـﻴﻦ ﻧﻔﺴـﻪ ﻭﺍﻟﻌﺎﻟﻢ، ﻭﻳﺮﻫﻘﻪ ﺍﻟﺘﻮﻕ إلى ﺇﺣﺮﺍﺯ، ﻭﺍﻟﺘﻮﺣﺪ ﻣﻊ، ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻜﻤﻦ ﺧﺎﺭﺟﻪ، ﻭﺍﻟﺬﻱ ﻳﻔﻬﻤﻪ ﻛﻀﺮﺏ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺒﺪﺃ ﺍﻷﻭﻝ ﺍﻟﻤﺪﺭﻙ ﺑﺎﻟﺤﺪﺱ. ﺇﻥ ﺍﺳﺘﺤﺎﻟﺔ ﺇﺣﺮﺍﺯ ﺃﻭ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺘﻮﺣﺪ، ﻭﻋﺪﻡ ﻛﻔﺎﻳﺔ”ﺃﻧﺎﻩ” ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ، ﻫﻮ ﺍﻟﻤﺼﺪﺭ ﺍﻟﺪﺍﺋﻢ ﻟﺸﻌﻮﺭ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺑﺎﻷﻟﻢ ﻭﻋﺪﻡ ﺍﻹﺷﺒﺎﻉ. ﻫﻜﺬﺍ ﻓﺈﻥ ﺍﻟﻔﻦ، ﻣﺜﻞ ﺍلعلم، ﻭﺳﻴﻠﺔ ﻻﺳـﺘﻴﻌﺎﺏ ﺍﻟﻌـﺎﻟﻢ، ﻭﺍﺳـﻄﺔ ﻟﻤﻌﺮﻓـﺔ ﺍﻟﻌـﺎﻟﻢ، ﺃﺛﻨﺎء ﺭﺣﻠﺔ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻧﺤﻮ ﻣﺎ ﻳﺴﻤﻰ “ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘـﺔ“. ﻣـﻦ ﺟﻬـﺔ ﺃﺧـﺮﻯ، ﺫﻟـﻚ ﻳﺸـﻜﻞ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﺃﻱ ﺗﻤﺎﺛﻞ ﺑﻴﻦ ﻫﺬﻳﻦ ﺍﻟﺘﺠﺴﻴﺪﻳﻦ (ﺍﻟﻔـﻦ ﻭﺍﻟﻌﻠـﻢ) ﻟﻠـﺮﻭﺡ ﺍﻹﻧﺴـﺎﻧﻴﺔ ﺍﻟﺨﻼﻗـﺔ، ﺍﻟﺘـﻲ ﻓﻴﻬﺎ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻻ ﻳﻜﺘﺸﻒ ﻓﺤﺴﺐ، ﺑﻞ ﻳﺨﻠﻖ.
ﺑﻮﺍﺳﻄﺔ ﺍﻟﻔﻦ، ﻳﺴـﻴﻄﺮ ﺍﻹﻧﺴـﺎﻥ ﻋﻠـﻰ ﺍﻟﻮﺍﻗـﻊ ﻣـﻦ ﺧـﻼﻝ ﺍﻟﺘﺠﺮﺑـﺔ ﺍﻟﺬﺍﺗﻴـﺔ. ﻓـﻲ ﺍﻟﻌﻠﻢ، ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ ﺗﺘﺠﻪ ﺻﺎﻋﺪﺓ ﺳﻠّﻤﺎً ﻻ نهائياً، ﻭﻫـﻲ ﺗُﺴـﺘﺒﺪﻝ، ﻋﻠـﻰ ﻧﺤـﻮ ﻣﺘﻮﺍﻝ، ﺑﻤﻌﺮﻓﺔ ﺟﺪﻳﺪﺓ، ﺣﻴﺚ كل ﺍﻛﺘﺸﺎﻑ ﻏﺎﻟﺒﺎ ﻣﺎ ﻳﺪﺣﻀﻪ ﺍﻛﺘﺸﺎﻑ ﺁﺧـﺮ ﻣـﻦ أﺟـﻞ ﺑﻠـﻮﻍ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻣﻮﺿﻮﻋﻴﺔ ﺧﺎﺻﺔ.
ﺍﻻﻛﺘﺸﺎﻑ ﺍﻟﻔﻨﻲ ﻳﺤﺪﺙ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﺮﺓ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭﻩ ﺻﻮﺭﺓ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﻭﻓﺮﻳﺪﺓ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ، ﻭﺗﺼﻮﺭاً ﻣﺒﻬﻤﺎً ﻟﻠﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ. ﺇﻧﻪ ﻳﻈﻬﺮ ﻛﻜﺸﻒ، ﻛﺄﻣﻨﻴﺔ ﺧﺎﻃﻔـﺔ ﻭﻣﺘﻘـﺪﺓ ﻟﻠﺴـﻴﻄﺮﺓ ﺣﺪﺳـﻴﺎً ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﻗﻮﺍﻧﻴﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ: ﺟﻤﺎﻟﻪ ﻭﻗﺒﺤﻪ، ﻭﺩﺍﻋﺘﻪ ﻭﻗﺴﻮﺗﻪ، ﻻ ﺗﻨﺎﻫﻴﻪ ﻭﻣﺤﺪﻭﺩﻳﺘﻪ.
ﺍﻟﻔﻨﺎﻥ ﻳﻌﺒّﺮ ﻋﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﺷﻴﺎء ﺑﺨﻠﻖ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﺍﻟﻜﺎﺷﻔﺔ ﻋﻦ ﺍﻟﺠﻮﻫﺮﻱ، ﻋﻦ ﺍﻟﻤﻄﻠﻖ. ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﻳﺘﻌﺰﺯ ﺍﻟﻮﻋﻲ ﺑﺎﻟﻼ ﻣﺘﻨﺎﻫﻲ: ﺍﻟﺴﺮﻣﺪﻱ ﺿﻤﻦ ﺍﻟﻨﻬﺎﺋﻲ، ﺍﻟﺮﻭﺣﺎﻧﻲ ﺿـﻤﻦ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ، ﻭﺍﻟﻼ ﻣﺤﺪﻭﺩ ﻳﻜﺘﺴﺐ شكلاً. ﻳﻤﻜﻦ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﺃﻥ ﺍﻟﻔﻦ ﺭﻣﺰ ﻟﻠﻜﻮﻥ، ﻧﻈﺮﺍ ﻷﻧﻪ ﻣﺘﺼﻞ ﺑﺘﻠﻚ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺮﻭﺣﻴﺔ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ، ﺍﻟﻤﺘﻮﺍﺭﻳﺔ ﻋﻨﺎ ﻓﻲ ﺃﻧﺸﻄﺘﻨﺎ ﺍﻟﻮﺿﻌﻴﺔ ﻭﺍﻟﺬﺭﺍﺋﻌﻴﺔ.