الإنتاج الفني والسرديفقه الأخلاق

مقومات الفنون الجميلة عند مالك بن نبي

1_1028263_1_34

يقول الفيلسوف الألماني هيغل: “الجمال: هو ذلك الجنّيُّ الأنيس الذي نصادفه في كلّ مكان”، لنعرف أن الإنسان مجبول على الالتفات للجمال والتمعن فيه واستدعاؤه، ومفطور أيضًا على تساؤلات لا تنتهي عن الجمال والفن، مثلًا: هل يخضع الجمال لمعايير تجعل منه مقبولًا، أم أنه لا حدود للجمال، لا مقاييس ولا معايير؟ هل الجمال والفن فضيلة مُطلقة؟ أم أن الفن تحكمه شروط ليكون نشاطًا مُمارسًا في المُجتمع، انشغالًا أساسيًا في الحياة، نُمارسه كأفراد ونُعبر عن أنفسنا ومشاعرنا وأفكارنا من خلاله؟ هل الفن والجمال أفكار قابلة للنقد والتمحيص والتعديل والتدخل؟ هذه التساؤلات كلها كونت ما يُسمى بفلسفة الجمال، عن أفكارالإنسان عن الجمال ومغزاه وحدوده وهل له شروط، عن كل ما يتعلق بالجمال والفن.
مالك بن نبي – المفكر والكاتب الجزائري وأحد رواد حركة النهضة الفكرية في مطلع القرن العشرين- يتحدث في كتابه “شروط النهضة” عن المقومات الهامة للفنون الجميلة وكيف تؤثر هذه المقومات على الغاية من الفن.

تبرز أهمية الفن الجميل في أحد موقفين ؛ فهو إما داع إلى الفضيلة، وإما داع إلى الرذيلة، فإذا حددت الأخلاق مُثله وغذى الجمال وحيه، فينبغي عليه أن يحدد هو وسائله وصوره الفنية للتأثير في الأنفس.

ويبرز خطر الفن عندما يُشرع في تقرير هذه الوسائل التي تجعله مريبًا أو مفسدًا، وذلك حسبما يُختار من الصور والألحان ؛ فالرقصة مثلًا  إما أن تكون قصيدة شعرية أو حركة جنسية، وهي على كل حال طريقة الطير في التقرب من أنثاه، وهي أيضًا للرجل في شأنه مع المرأة.

غير أن الرقصة تطورت عند الإنسان، فأصبح فيها شيء من الشعر عند اليونان، وشيء من التصوف في طقوس بعض الأديان ؛ وفي كل هذه التطورات نجد الأخلاق قد حددت أهدافها ومراميها، وبقيت الوسيلة التي تعطي الرقصة صورتها الفنية، فالتقرب من المرأة قد يكون بغزل شريف وقد يكون بغير ذلك، والهدف واحد. ومن المؤسف أن الرقصة عندنا -العرب- قد أصبحت صورة جنسية فقط، بينما هي قد اتخذت لها عند اليونان صورة شعرية، وأصبح في بلادنا أيضًا مشوهًا للذوق، لأنها اتخذت إلى النفوس صورة جنسية فقط.

فإذا فهمنا الفن على هذه الصورة، فإننا نستطيع أن نوسع نطاقه حتى يشمل المشي في الشوارع، وكيفية شرب الماء، وكيفية التثاؤب في المجتمعات العامة ؛ غير أن المجال لا يتسع لكي تضم هذه السطور القليلة كل هذا.

كذلك فإننا نكتفي من الفن بمعناه الشائع، أي بما هو معدود من مظاهره العادية المنتشرة في البلاد الإسلامية اليوم، كالغناء والموسيقى والسينما وغير ذلك.

إننا لا نجمع في خدمتنا للفن بين الجهد والعبقرية، كأن الكسل من ميزات الفن الجميل عندنا. وربما نعجب إذا سمعنا أن المقدرة والنبوغ في الفن هما نتيجة الكد الطويل والجهد المستمر، والعمل الثابت والاجتهاد في البحث والانتقاد بقصد التحسين.

وليس من شك في أن المواهب الفطرية شرط واجب، إلا أنها ليست الشرط الوحيد، لأن المواهب وحدها وإن كانت تنير اسم الفنان، إلا إنها -من غير كد وجهد- تحرقه، وسرعان ما يصبح في ظلمات النسيان. وهكذا كان شأن بعض فنانينا، فإنهم أضاؤوا لحظة ثم انطفؤوا إلى الأبد، مع أنهم كانوا على جانب من المواهب، لو أنهم استخدموها في سبيل الفن لكانوا من الخالدين.

وهذه الإشارة إلى وجوب التوفيق بين المواهب والمجهودات الشخصية في ميدان الفن الجميل، نراها تنطبق أيضًا في الرياضة، حيث نرى كثيرًا من الرياضيين عندما يطلبون الكسل العاجل، ولا يركنون إلى الجهد الطويل، فتذهب مواهبهم الغالية هباء منثورًا.

وعلى كلٍ فإننا نحتاج أن نقرن بين الموهبة والقدرة لنحصل على شيء يكون جديرًا باسم الفن.

إن الفن الذي ليس إلا رياء كاذبًا وتصنّعًا مخلًا  لبعض الفنانين، الذين يهملون مظهرهم مبالغة في البساطة ليظهروا بساطتهم الفنية، هو من المشرب نفسه الممثل في بعض شبابنا الرياضيين، حين يبالغون في تعقيد مظهرهم، بتقليد أبطال السينما في إطالة الشعر واستخدام العطور والمساحيق أحيانًا، بينما البساطة تعني البساطة.

إن هذا ليس من روح الفنون بل هو من باب الجنون، وواجبنا أن نضرب على أيدي أولئك المتبطلين، فلا نسمح لهم بأن يشوهوا ذوقنا الفني باسم الفن، والفن منهم براء.

أحمد بادغيش

مدوّن، مهتم بالأدب والفلسفة والفنون.
زر الذهاب إلى الأعلى