الحضارات البشرية والتاريخالمعرفة والفكر الفلسفي

أصل الكتابة كما يراها جان جاك روسو

arton12646

في صدد حديثه عن أصل اللغات، يقدّم الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (1712 – 1778) نظرته عن تكوّن الكتابة، أنواعها وأثرها على اللغات ذاتها، فيقول في كتابه “محاولة في أصل اللغات [تحميل]”:

إن كل من يدرس تاريخ اللغات وتقدّمها يجد أنه بقدر ما تزداد رتابة التصويتات تتضاعف الحروف الصوامت والتركيبات النحوية والتمفصلات الجديدة. ولكن هذه التغيّرات لا تتم إلا بمفعول الزمن. فبقدر ما تنمو الحاجات وتتعقد الأعمال وتمتدّ الأنوار تغيّر اللغة من طابعها، فتصبح أشدّ معقولية وأقل عاطفية، وتعوَّض المشاعر بالأفكار وتكفّ عن مخاطبة القلب لمخاطبة العقل. ومن ثمّ بالذات تنطفئ النّبرة وتتعدد المقاطع؛ فتصير اللغة أشدّ ضبطًا وأشدّ وضوحًا، ولكنّها تصير أفتر أيضًا، وأصمّ وأبرد. يبدو لي هذا التدرّج طبيعيًا جدًا. ثمّة طريقة أخرى في المقارنة بين اللغات والتعرّف على قدمها، وهذه الطريقة تؤخذ من الكتابة، وذلك عن طريق المقارنة عكسيًا مع مدى اكتمال هذا الفنّ، فبقدر ما تكون الكتابة خشنة تكون اللغة قديمة. إن الأسلوب الأول في الكتابة لم يكن رسم الأصوات، بل كان رسم الأشياء نفسها، رسمًا مباشرًا مثلما كان يفعل المكسيكيون، أو رسمًا غير مباشر مثلما كان يفعل المصريون قديمًا. وتوافق هذه الحالة زمن اللغة العاطفية.

أما الأسلوب الثاني فيكون بتمثيل الكلمات أو القضايا بأحرفٍ اصطلاحية، وهو ما لايمكن إنجازه إلا عندما يبلغ تكوين اللغة كماله، وعندما يتحدّ شعبٌ برمته في ظلّ قوانين مشتركة، كما هو الشأن في اللغة الصينية، وذلك بحقّ هو رسم الأصوات ومخاطبة العيون.

أما الأسلوب الثالث فيكون بتقطيع الصوت المتكلم إلى عدد معيّن من الأجزاء الأساسية التصويتية والتمفصلية، بحيث يمكن استخداها في تركيب كلّ ما يمكن تخيلّه من الكلمات والمقاطع. إن هذا الأسلوب في الكتابة لابدّ أن تخيلته شعوب تشتغل بالتجارة اضطرّها ذلك كونها تسافر إلى عديد من البلدان وكونها ملزمة بالتكلم بعدّة لغات، إلى اختراع أحرف تكون مشتركة بين كل اللغات. ليس هذا رسمّا للكلام بل هو تقطيعٌ له.

إن الكتابة التي يبدو من مهاماتها تثبيت اللغة، هي عينها التي تغيّرها. فهي لا تغيّر كلماتها بل عبقريتها. إنّها التعبير بالدقة، فالمرء يؤدي أفكاره عندما يكتب ومشاعره عندما يتكلّم. فهو عند الكتابة ملزم أن يحمل كل الألفاظ على معناها العام، ولكن الذي يتكلم ينوّع بين الدلالات بواسطة النبرات، ويعيّنها مثل ما يحلو له. ولا يمكن للغة نكتبها فقط أن تحتفظ طويلًا بحيوية تلك التي نتكلمها فقط. فإنما يكتب المرء التصويتات لا النغم، غير أن النغم والنبرات ومختلف انعطافات الصوت في اللغة ذات النبر هي التي تمنح التعبير أقصى ماله من طاقة، وهي القادرة على تحويل الجملة من جملة شائعة الاستخدام إلى جملة لا تستقيم في غير الموضوع الذي هي فيه. أما الأساليب التي تتخذ للتعويض عن ذلك – علامات الترقيم – فما هي إلا توسيع لمجال اللغة المكتوبة وتمديد لها، وهي بانتقالها من الكتب للخطاب تشنّج الكلام عينه. إذا المرء أضحى كل شيء يقوله كما لو كان يكتبه لم يعد إلا قارئًا يتكلّم.

قد يكون لأصل الكتابة علاقة بما قاله جان جاك روسو عن أصل اللغات.

زر الذهاب إلى الأعلى