عن خواطر توفيق الحكيم في المتاحف وأمام الفنون
(توفيق الحكيم) (1898-1978) كاتب وأديب مصري، من رواد الرواية والكتابة المسرحية العربية ومن الأسماء البارزة في تاريخ الأدب العربي الحديث.
في كتابه (زهرة العمر) والذي ذكر فيه مراسلته مع صديقه (أندريه)، والذي حمل اسم (إيڤان) في روايته (عصفور من الشرق).
نورد فيها بعض من مراسلاته، وتحدثه عن زياراته إلى (متحف اللوڤر) الشهير، وبعض خواطره عن الفنون:
هذه رسائل حقيقية كُتبت بالفرنسية في ذلك العهد الذي يسمونه “زهرة العمر”، وهي موجهة إلى مسيو (أندريه) الذي جاء وصفه في كتابي (عصفور من الشرق).
وقد بدأنا نتراسل بعد مغادرته باريس للعمل في مصانع ليل بشمال فرنسا. ولبثنا على ذلك ما بعد عودتي إلى مصر، والتحاقي بالسلك القضائي.
عزيزي (أندريه)،
لقد ذهبت أمس الأحد إلى (اللوڤر) كعادتي، وإنك تعلم لماذا أواظب على الذهاب إليه كل أحد؛ فهذا هو اليوم المخصص للدخول بالمجان، وإني لأنفق طول يومي هناك، دون أن أحس مر الوقت. بل إني أدركت -منذ أسابيع- خطأ التوزع بين قاعات المتحف في يوم واحد! ذلك شأن المشاهد السريع.
أتدري ماذا أصنع الآن يا (أندريه)؟
إنني أخصص يومًا كاملًا للقاعة الواحدة، فأنا لست سائحًا مستعجلًا. إني أبحث أمام كل لوحة عن سر اختيار هذه الألوان دون تلك، وعن مواطن برودتها وحرارتها، وعن رسم أشخاصها وبروز أخلاقهم، واتساق جموعهم، وحركتهم وسكونهم، كل لوحة في الحقيقة ليست إلا قصة تمثيلية داخل إطار، لا داخل مسرح، تقوم فيها الألوان مقام الحوار. وإني لأكاد أصغي إلى أحاديث الأبطال وهم على الموائد في (أفراح قانا) لوحة (فرونزه)، وأكاد أسمع ضجيج الحاضرين، وصياح الشاربين، ورنين الكؤوس، وخرير النبيذ، يفرغونه من دن إلى دن!
إن طريقة إبراز كل هذه الحياة بالريشة لقريب من طريقة إبرازها بالقلم، إن أساس العمل واحد فيهما: الملاحظة والإحساس، ثم التعبير بالرسم والتلوين، بل إن الروح أحيانًا لتتشابه. ولطالما وقفت عيناي طويلًا على صفحات ناثر أو شاعر، وأنا كالمأخوذ أفحص السطور بيدي، لأتبين إن كانت من مداد أو من أثير.
إن روح الكاتب أو الشاعر لتشف أحيانًا وتخف وتتحرك في الأجواء بلطف كأنها نسيم راقص!
هذا الشعور ملأ نفسي وبصري أمام لوحة، مثل (الربيع) لـ(بوتيتشيلي) التي يصور فيها رقص الحِسان الثلاث في غابة البرتقال. ولوحة (فينوس) تتبع بيدها وقع الخطى والنسيم من حولهن يعانق الأزهار.
أو مثل لوحة (موريو) عن (صعود العذراء)، وهي في جمالها الطاهر؛ تخترق السماء وفي ذيلها القمر، ومن حولها الملائكة!
إن الشعور والرقص والموسيقى ليتناثر أريجها مجتمعة، في جو مثل هذا الفن العظيم!