عن تطوّر فن المقالة الحديثة وأثر الآداب العربية القديمة في تطوره، يوسف د. (محمد يوسف نجم)
فالمقالة في حقيقتها، شأن سائر فنون الأدب الأخرى، تقوم على ملاحظة الحياة وتدبر ظواهرها وتأمل معانيها
د. محمد يوسف نجم (١٩٢٥م-٢٠٠٩م) أديب وأستاذ جامعي فلسطيني-لبناني. حصل على جائزة الملك فيصل العالمية في اللغة العربية والأدب سنة ١٩٩٢م، بالاشتراك مع كل من (شكري محمد عياد) و(محمد مصطفى بدوي).
في عام ١٩٩٥م، بدأ د. (محمد يوسف نجم) بكتابة سلسلة عن “الفنون الأدبية”، كان الغاية منها “أن تقدم للقارئ العربي خلاصة وافية عن كل فن من الفنون التي نتناولها، تعينه على تذوق الروائع الأدبية، وتصقل حسّه النقدي، وتهذب ملكاته”. كان أول هذه السلسلة هو كتابه (فن المقالة) التي يستعرض فيها تطور فن المقالة عبر التاريخ البشري، حتى في الآداب العربية القديمة.
يقول د. (محمد يوسف نجم) في مقدمة كتابه عن بذور المقالة في الآداب الشرقية القديمة:
ظهرت بذور الأدب المقالي، بأنواعه المختلفة، في الآداب القديمة قبل القرن السادس عشر. وهذا الأمر ليس مظنة الاستغراب، فالمقالة في حقيقتها، شأن سائر فنون الأدب الأخرى، تقوم على ملاحظة الحياة وتدبر ظواهرها وتأمل معانيها، وهذه ظاهرة نفسية رافقت الإنسان منذ ظهوره على وجه الأرض، إذ هي في مركبة في طبيعته، بل هي جوهر جبلته التي فُطر عليها.
وقد عبر عنها منذ فجر التاريخ في تهاويل السحر ورسوم الكهوف، ووجدت في أحاديثه ومغامراته قبل التدوين متنفسًا ومتاحًا. وأصبح من عادة هذا الإنسان المتأمل فيما بعد، أن يدوّن نتيجة تأملاته وخاطرته على صورة ساذجة تتسم بالبساطة والعفوية دون أن يشق على نفسه في خلق قالب فني محدد، أو لعله لم يكن من الفطنة والحذق بحيث يتيسر له ذلك.
يقول بعد ذلك مستفتحًا حديثه عن المقالة في الأدب العربي القديم، والذي يرجع بدايته إلى القرن الثاني للهجرة النبوية، فيقول:
فقد ظهرت بذور المقالة في أدبنا منذ القرن الثاني للهجرة. وتمثلت على أحسن صورها في الرسائل، وخاصة الإخوانية والعلمية. فلو نحينا جانبًا الرسائل الديوانية التي كانت تتحجر في كل عصر، في قوالب معينة يرثها الخلف عن السلف، والتفتنا إلى الإخوانيات، وما تدور عليه من مسامرات ومناظرات وأوصاف وعتاب، وإلى الرسائل التي كانت تتناول الموضوعات التي تفرّد بها الشعر كالغزل والمديح والهجاء والفخر والوصف، لوجدنا أنها تعكس خصائص المقالة، لا كما عرفت في طورها الأول الذي استمر حتى القرن السادس عشر، بل كما عرفت عند رائديها في فرنسا وإنجلترا.
ثم وقع كتاب الرسائل العرب حينها في التكلفات اللفظية، مما أبعد أدب الرسائل العربية من شكل المقالة الحديث:
وفي القرن الرابع خطت الرسائل المقالية خطوة ذميمة نحو التكلف وارهق، فغدت وإن تنوعت موضوعاتها، متحجرة الأسلوب، مما يبعدها في نظر النقد عما يقتضيه أسلوب المقالة الحديثة من تدفق وحرية وانطلاق.
ولا نجد في هذا القرن كاتبًا يعادل (أبا الحيان التوحيدي) في طلاقة تعبيره وغزارة معانيه وبراعة تصويره. فرسائله -على ما يتسم به بعضها من الطول- شديدة الشبه بالمقالات الموضوعية الحديثة.
لكن بالرغم من ذلك، يبدو بأن ظهور الشكل الأدبي للمقالة الحديثة على يد (مونتين) ففي عصر النهضة الأوروبية:
يجمع مؤرخو الآداب الغربية، على أن المقالة الأدبية الحديثة، عرفت سبيلها إلى الحياة على يد الكاتب الفرنسي (ميشيل دي مونتين). وقد بدأت بذورها تتكون في نفسه عندما اعتزل الحياة العامة، حيث كان يعمل في المحاماة، وترك بوردو إلى مزارعه الريفية سنة ١٧٥٠م، وذلك ليعيش حياة يرف عليها الهدوء، وتخصصها القراءة على حد قوله.
ويمثل (مونتين) في ثقافته وذوقه، رجل النهضة الفرنسي أحسن تمثيل. وقد ألهبته حماسة أبيه وشغفه بالثقافة الإيطالية الإنسانية، فاتجه هو بدوره إلى دراسة اللاتينية، قبل أن يشدو بالفرنسية. وقد تتلمذ فيها لبعض المشاهير من علماء الكلاسيكيات في عصره.