ثروت عكاشة يتحدّث عن الفن والحياة
ثروت عكاشة (1921-2012). كان وزيراً للثقافة و نائب رئيس الوزراء المصري سابقاً، أنشأ أكاديمية الفنون في ١٩٥٩ و يعود له الفضل في تأسيس البنية التحتية للثقافة في مصر و تطويرها، له العديد من المؤلفات في الفنون منها كتاب (الفن و الحياة).
يتحدّث (ثروت) عن الفنون و دورها في تنمية النظام الأخلاقي، و تجاوز وظيفتها من صنع الجمال و خلقه إلى تهذيب النفس الإنسانية:
الفن لا يقف عند إبداع الجمال و تحقيق أسمى متعة للإنسان ، بل ينفذ كذلك إلى أعماقه ليوائم بين أمزجته فيحفظ له اتساق كيانه الداخلي . و يذهب علماء النفس إلى أن ثمة شهوات في النفس تضطرم ، و ما أكثر ما يعاني المرء من كبتها ، و قد يعجز فيسيء إلى المجتمع الذي يعيش فيه بما يندفع إليه من خروج على القوانين و التقاليد ،و قد يفلح فيسيء إلى نفسه بما يجر له من ويلات الكبت . و لم يجد علماء النفس لذلك مخرجاً غير الفنون ، فهي بما تمثّله كفيلة برد النفوس إلى الطمأنينة حين تجد ما تشتهيه و تتخيله بين يديها مرئياً أو مسموعاً
و في الانتقال بين مفردتيّ الفن و الفنان يتساءل (ثروت) عن الفنان ، مؤسساً بذلك سؤالاً مثيراً للجدل فيما إذا كان هو الشخص الذي يخدم نفسه بعمله الفني أو يخدم المجتمع، ثمَّ يتناول المصادر التي تحفّزه لإنتاج العمل ، إذ أنه لا يوجد فصل بين الظروف التي تحيط بالفنان و بين ما ينتجه:
و لكن ترى من هو الفنان؟ أهو المعبّر عن روح الجماعة التي ينتمي إليها و عمّا تحس به و يجيش في صدورها ؟ أم هو المعبر عن ذاته و آلامه و أحلامه ؟ سواء أكان الفنان هذا أم ذاك ، فهو لا شكّ يستلهم من الزمان الذي يعيش فيه و من البيئة التي يحيا فيها ، و من الأحوال التي تحيط به ، و هو على الحالين معبّر عن نفسه و قومه بل و إنسانيته
وفي انتقالية أخرى ، يسلّط (ثروت) الضوء على دور المتلقّي في إعطاء العمل الفني قيمة أكبر و ذلك من خلال محاولته لفهم العمل الفني و البيئة التي جاء فيها و أهميتها في إثراء المتلقي و استمتاعه بالعمل الفني:
و ما أخطر ألّا يلقي الإنسان بالاً لأعمال الفنان ، ويتعمقها قانعاً بما قرأ ، مجتزئاً به عن أن يتبعه بدراسته . فإن الفن عميق دقيق و على من يرغب في تذوقه أن يكون دقيقاً عميقاً ، ينعم النظر في كل صغيرة و كبيرة ، و يغوص في كل جليلة و ضئيلة ، و أن يحيط بالظروف و الأحوال و البواعث و الحوافز ، عندها سوف يستمتع بالفن متعة رخية واعية
كما و يتناول موضوع العلاقة التي تربط فيها جودة العمل الفني بين المتلقّي و ما يولّده العمل لديه:
الجودة إذن هي تعبير عن موهبة الفنان و جهده ، غير أنّها ضروؤة للمتلقّي حتى يستقبلها و يفسح لها مجالاً في نفسه ، و هنا يبدأ حوار صامت بين المتلقّي و نوع الإحساس الذي أثاره العمل الفني في وجدانه . و هنا أيضاً يكمن السر الذي يجد فيه العمل مأربه و سرّ وجوده
يتّسم هذا العصر بتطور تكنولوجي هائل ساهم بشكل كبير و ملحوظ في زيادة الاتصال بين الأعمال الفنية و المتلقّي بوسائل كثيرة و مختلفة تتيح له مساحةً أكبر للتفاعل و تطوير الذوق الفني و الشخصية الفردية:
و ما من شكّ في أننا نملك اليوم من أدوات الاتصال و الانتقال و الطباعة ما لم يملكه السلف بالأمس ، و غدا الفرد و هو مستلقٍ في داره يستمتع بما هنا و هناك مطبوعاً أو مصوّراً أو مرئياً على شاشة السينما أو التلفزيون أو الكمبيوتر دون أن يبرح مكانه ، فأصبحنا بهذه الوسائل و الأدوات أقدر على أن نهيئ لأنفسنا ما يذكّي فينا الذوق الفني و يطبعنا على الإحساس به ، فإذا متاحف الفن التي لم تأخذ بالانتشار إلا خلال القرن التاسع عشر تغدو اليوم ذات شأن كبير في المعاونة على استيعاب الأعمال الفنية و دراستها و الموازنة بين بعضها و بعض حتى غدت جزءاً كبيراً من حياة الناس اليومية ، و أصبحت تلك المعروضات الفنية تمثّل شيئاً قائماً بذاته يُضفي عليها مجتمعة طابعاً جديداً
ثمَّ في مكانٍ آخر، يطرح ثروت فكرة (الخروج عن القالب) الذي يقدّم رؤية فنية جديدة مختلفة عن (القالب) الذي التزمه الفنانون لفترات طويلة جعلت من أي انحراف عن المسار المؤسس هو خطأ ارتكبه الفنان بحق الطبيعة ، بينما هو في الحقيقة شيئاً لا بد منه و ضروري لإثارة أفكار بأساليب و طرق جديدة ، و أهمية إعادة النظر في ماهية العلاقة بين الفنان و ما ينتجه ، هل هي خضوع أم تحكّم ؟
غير أننا نرى فناني اليوم يحاولون أن ينظروا إلى العالم نظرة جديدة و كأنهم يرونه لأول مرة ، فإذا هم يتناسون تلك الآراء السابقة عن وردية اللحم البشري ، و صفرة التفاح أو حمرته. في قدرة الفنان بهذه المحاولة مع ما فيها من كدّ و مشقّة أن يقدّم أعمالاً من الروعة بمكان تضيف إلى جمال الطبيعة جمالاً جديداً لم نكن نحلم يوماً برؤيته و تجعلنا نتنكّر للالتزام بالمألوف الذي يحرمنا من التجديد و الاجتهاد و يفوّت علينا مثل هذه المتعة . إذ أن الفنان الحق هو الذي لا يسلّم نفسه للطبيعة توجهه كيف تشاء ، إنما هو الذي يوجه الطبيعة كيف شاء ، و لا يكون منها بمنزلة التابع ، بل بمنزلة الندّ المنافس
لكل زمان فنونه ، و رغم الاختلافات التي تحملها فبينها قواسم مشتركة تصنعها العوامل و الأزمات وكل البيئات التي تظهر في كل زمان ، موحّدة بذلك فنون كل حقبة زمنية طالت أو قصُرت بإطار بشري عام:
فنون كل عصر ترتبط بعضها ببعض ، و تجمع بينها كلها سمات مشتركة نشأت عن الصلات الجامعة بين الفنانين في عصر بعينه فكراً و بيئة ؛ فلقد كانوا يصدرون معاً عن هذه الظروف المتجانسة و إن اختلفوا في الوسيلة و الصياغة .و هذه الظروف التي خلّفت وحدة متكاملة ربطت بين كل مرحلة و المكان الذي توفر فيه من أسباب الحضارة م لم يتوفر في غيره من تلك المرحلة التي أصبح كل ما فيها من نبوغ ينتمي إليها