توفيق الحكيم، في حديثه عن الفنون الكلاسيكية والحديثة
توفيق الحكيم (1898-1978) كاتب وأديب مصري، من رواد الرواية والكتابة المسرحية العربية ومن الأسماء البارزة في تاريخ الأدب العربي الحديث. في كتابه (زهرة العمر) والذي يقول عنه:
هذه رسائل حقيقية كُتبت بالفرنسية في ذلك العهد الذي يسمونه “زهرة العمر”، وهي موجهة إلى السيد (أندريه) الذي جاء وصفه في كتابي (عصفور من الشرق). وقد بدأنا نتراسل بعد مغادرته باريس للعمل في مصانع ليل شمال فرنسا. ولبثنا على ذلك ما بعد عودتي إلى مصر، والتحاقي بالسلك القضائي.
في رسالته هذه تحدث عن الصراع بين الفنون القديمة الكلاسيكية، وبين الفنون الحديثة، وعن موقفه في ذلك الصراع كمحب للفنون يقول الحكيم:
عزيزي (أندريه)،
لست أدري: أمن سوء حظي أو من حسنه، أني أعيش الآن في أوروبا، وسط هذا الاضطراب الفكري، الذي لم يسبق له مثيل ؛ فهذه الحرب الكبرى قد جاءت في الفنون والآداب بهذه الثورة، التي يسمونها “المودرنزم“؛ فكان لزامًا عليّ أن أتأثر بها، ولكنني -في الوقت ذاته- شرقي جاء ليرى ثقافة الغرب من أصولها، فأنا موزع الآن كما ترى بين القديم والحديث لا أستطيع أن أكون مع الثائرين؛ فليسقط القديم، لأن هذا القديم أيضًا جديد عليّ .. فأنا مع أولئك وهؤلاء.
إني أخرج من (متحف اللوڤر) متحمسًا لأعمال (سيزان) و(دافنشي) و(فيلاثكيث) و(غويا) و(مملنج) و(فان ديك)؛ لأدخل بعد ذلك توًا معرض الخريف، أشاهد أحدث لوحات الفن الحديث، بألوانها الصارخة الفاقعة، وخطوطها البسيطة العارية.
إن الفكرة المسيطرة على الفن الحديث هي: الفطرة والبساطة، يطلبون في الفطرة النضارة، ويذهبون في البساطة إلى حد التركيز. لقد غالوا في التصوير لدرجة المناداة بفصل عناصر كل فن عن الآخر فصلًا تامًا؛ فالتصوير -وهو فن الألوان- يجب أن يستغني عن الموضوع؛ لأن الموضوع من عناصر القصة. والشعر وهو فن الشعور- يجب أن يستغني عن العقل الواعي (مذهب الدايزم)، والموسيقى -وهي فن الأصوات- يجب أن تستغني عن الشعور، والنحت -وهو فن الأحجام- يجب أن تستغني عن الأفكار …إلخ.
وهذا قليل جدًا مما جاءت به نظريات الحداثة، ولا أحب الإسهاب فيها، لأني أكره النظريات في الفن؛ فالفن عندي خلق إنساني جميل لا أكثر ولا أقل، وقد يكون في المودرنزم نفسه -على الرغم من احتواء نظرياته- لبعض من الجمال، ولكن ذلك لن يدعوني مطلقًا إلى النداء بسقوط (رافييل) و(لافونتين) و(بيتهوفن) ؛ من أجل الثورة الفنية التي تنادي بها طائفة تحاول -بأي ثمن- الإتيان بجديد!
لقد قرأت أخيرًا لكاتبة فرنسية حديثة، تقول عن حركة المودرنزم بما معناه: إنه بعد عشرين قرنًا من حضارة مفعمة بألوان البراعة الذهنية، والحذلقة الفكرية، وحياة الصالونات، والأكاديميات ؛ غدت الدنيا مثل غانية عجوز، مفرطة في الزينة والبهرج والأصباغ، بمقدار بعث الناس عطشًا إلى عصور الفطرة الأولى، بناسها العراة وإحساسها المجرد. وإن قيمة الفن الحديث، هي في أنه يحاول أن يعيدنا إلى النضارة الفطرية البدائية، وإلى مصدر الإلهام الأول!
فقول هذه الكاتبة صحيح؛ لأن مصادر الفن الحديث: سواء في الروح أو الأسلوب، مستمدة حقًا من الفنون الأولى مباشرة.
إن أثر مصر القديمة ظاهر في العمارات الحديثة والنحت الحديث، بل إن الإمعان في طلب الفن الفطري وصل إلى حد استلهام فن الزنوج!
إن أثر الفن الزنجي واضح في التصوير الحديث، والموسيقى الحديثة، والرقص الحديث.