المنفلوطي وقصة الغناء العربي
مصطفى لطفي المنفلوطي (1976-1924) أديب مصري نابغ في الإنشاء والأدب، انفرد بأسلوب نقي في مقالاته ، له شعر جيد فيه رقة، قام بالكثير من الترجمة والاقتباس من بعض روايات الأدب الفرنسي الشهيرة بأسلوب أدبي فذ، وصياغة عربية في غاية الروعة. لم يحظ بإجادة اللغة الفرنسية لذلك أستعان بأصحابه الذين كانوا يترجمون له الروايات ومن ثم يقوم هو بصيغتها وصقلها في قالب أدبي . كتاباه (النظرات) و(العبرات) يعتبران من أبلغ ما كتب في العصر الحديث. نقتبس لكم هنا من كتابه (النظرات) رأيه في الغناء الذي استفتتحه بمقولته:
الغناء بقية خواطر النفس التي عجز عن إبرازها اللسان، فأبرزتها الألحان فهو أفصح الناطقين لسانًا، وأوسعهم بيانًا، وأسرعهم نفاذًا إلى القلوب وامتزاجًا بالنفوس، واستيلاءً على العقول، وأخذًا بمجامع الأفئدة، وبيان ذلك أن النطق ثلاث طبقاتٍ تختلف درجاتها باختلاف درجات الإبلاغ والتأثير فيها، فأدناها النثر، وأوسطها الشعر، وأعلاها الغناء.
ثم يكمل بعد ذلك عن حال االبشرية مع الغناء:
والغناء فنّ من الفنون الطبيعية، تهتدي إليه الأمم بالفطرة المترنمة في هديل الحمام وخرير المياه، وحفيف الأشجار. فمن أبكاه الحمام غرّد تغريده كلما أراد البكاء، ومن أطربه صوت الناعورة رنّ رنينها ليطرب جمله أو ناقته فينشطان للمسير.
أما عن حال العرب مع هذا الفن فيقول:
وما زال هذا الفن مبتديًا ببداوة الأمة العربية لا يكاد يتخطى فيها حداء الجمال، ومناغاة الأطفال، حتى إذا انتقلت من مضيق الحاجيات إلى منفسح الكماليات، وتوسعت فيه وزادت فيه أنغامه وضروبه، وتفننت في آلاته وأدواته؛ وكذلك كان شأن العرب في جاهليتهم ، ينظمون أشعارهم على نِسب متوازية، وأنغام متوازنة. فالبيت يوازن البيت في ترتيب الحركات والسكنات وتعدادها، والشطر والتفعيلة يوازنان الشطر والتفعيلة كذلك، فكأنما كانوا يهيئون لأنفسهم بمذهبهم هذا في الشعر ألحانًا موسيقية، غير أن معارفهم لم تكن تتسع لأكثر من هذا النوع من الموسيقى، وهو نوع التناسب الشعري الذي هو قطرة من بحر هذا الفن الزاخر، ثم استمر شأنهم على هذا حتى جاء الإسلام واختلطت الأمة العربية بالأمة الفارسية التي كان لها من حضارتها وتمدينه متسع للبراعة في هذا الفن ومنتدح في مناحيه ومقاصده، ووفد الكثير من مغني الفرس والروم مَوالي في بيوت العرب وبين أيديهم العيدان والطنابير، والمعازف والمزامير، يلحنون بها أشعارهم الفارسية والرومية، فسمعها منهم العرب فاقتبسوها ولحنوا بها أشعارهم تلحينًا بزوا فيه أساتذتهم، وولدوا ألحانًا وأنغامًا لم يأتِ بها من قبلهم، شأنهم في جميع الفنون والصناعات التي كانوا يقتبسونها من الأمم المتمدنة المعاصرة لهم.
ثم يكمل بعد ذلك، فيقول بأن الغناء كان له شأنًا عظيمًا رفيعًا في الصدر الأول من الإسلام، ويكمل فيقول:
ولقد مضى الصدر الأول من الإسلام وشأن فن الغناء العربي هذا الشأن العظيم، خصوصًا في أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية، ثم أخذت شمسه الباهرة تنحدر إلى الغروب بانحدار اللغة العربية وشِعرها حتى أصبح في حضارة الأندلس قدودًا وموشحات، بعد أن كان قصائد ومقطعات، (…) وليت الأمر وقف عند هذه الموشحات فإنها وإن لم تكن شعرية اللفظ فهي شعرية المعنى عالية الخيال، وهي على علّاتها خير من شعر العامة الذي قضى عليهم فساد اللغة وانحطاطها بانتهاجه والتغني به كالزجل، والمواليا، والقوما، والدوبيت، وكان ويكون، غير أن ذلك ما يسمى في عهدها هذه بالأدوار والتواشيح والأغصان والمذاهب وأمثالها.