الملامح والخصائص النفسية للوجود المتخلف .. قراءة في سيكلوجية الإنسان المقهور
من وجهة نظري أنا كاتب المقال، لا يمكن فصل العام عن الخاص. وجميع هذه الملامح قد تظهر للجمهور في أكثر من بُعد
دكتور (مصطفى حجازي) حصل على دكتوراة في علم النفس من جامعة اوكسفورد بفرنسا، وعمل أستاذًا للصحة الذهنية بجامعة لبنان ثم الجامعة البحرينية. وهذه قراءة في أحد أهم كتبه، وهو (التخلف الاجتماعي؛ قراءة في سيكلوجية الإنسان المقهور).
عن مصطلح التخلف:
مصطلح التخلف برز بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وذاع استعماله وكثرت الكتابات حوله ابتداء من الخمسينات. وتجمعت خلال خمس عشرة سنة آلاف المقالات والأبحاث من علماء الاجتماع، سياسة، قانون، تاريخ، علماء اللسان أو الألسنية Linguistique، علماء الإثنولوجيا Ethnologie وعلماء النفس، لدرجة يصعب على الباحث توضيح نظرية التخلف و تعريفه، ويرجع ذلك إلى تعدد من تعاطوا بحث هذه المسألة.
ما يعنيه بالتخلف الدكتور (حجازي) في بحثه وأنا في هذه المقالة، ليس فقط الكلمة التي تطرح أكبر قضية تواجهها البشرية في القرن الحالي، أي تحدي النهوض بثلاثة أرباع البشرية كي تلحق بركب بلدان العالم الأول، الصناعي الرأسمالي، وبلدان العالم الثاني الاشتراكي.
فبالرغم من أنها تبدو خصائص التخلف النفسية وأولوياته الدفاعية بأبرز صورها في نمط حياة جماهير الغير منظمة أو مؤطره سياسيا أو العفوية، التي لم تتح لها ممارستها الوصول إلى التعامل مع الواقع انطلاقا من الوعي بجدليته وموضوعيته. لكن من المهم أن ننتبه بأن الدول المنظمة والمؤطره سياسيا لا يعني أنها تخلصت من قيود التخلف ذهنيا وانفعاليا وعلائقيا. العكس هو الصحيح، فبينما يتصف السلوك في الحالة بدرجة عالية من التقدم والتطور نلاحظ أن المعاش اليومي على مستوى الحياة الخاصة ما زال محكوما بمعايير وقيم وبنظرة إلى الذات والآخرين على درجة كبيرة من التخلف. بالواقع أنها تتصف بالخصائص نفسها وإن اتخذ الأمر طابعا مخففا أو خفيا في غالب الأحيان. متسترة بقناع من التقدم يكفي انتزاعه حتى نتحقق من أن سلوكها تحكمه المعايير نفسها والنظرة إلى الحياة نفسها.
عرض الدكتور (حجازي) الطريقة السطحية التي نشرتها الأمم المتحدة حيث ميزت التخلف مثلا: بالفقر، حالة التغذية، الحالة الصحية، التعليم، وأهمها على الإطلاق متوسط الدخل الفردي. إلا أن مؤشر الدخل مقسما على عدد السكان بشكل مضلل جدا. فهو من ناحية لا يبين التشتت الكبير في مستوى مختلف الفئات التي يتكون منها المجتمع. فالدخل لا يوزع بالتساوي. هناك فئة قليلة تحظى بالنسبة الكبرى من الدخل، وتعيش فوق مستوى الفئة المماثلة لها في البلاد المتقدمة، وفي حالة من البذخ المادي المفرط. بينما الغالبية الكبرى من السكان تعيش دون مستوى الكفاف.
وهذا التعريف لا يستقيم نظرا لعدم توحيد المعايير من ناحية -أي أن البلدان النامية تشهد تفجرا سكانيا هائلا لم يكن موجودا في البلدان الصناعية في أوائل الثورة الصناعية- وأيضا ما يجعل هذا التعريف سطحي هو صعوبة المقارنة بين البلدان المتقدمة والنامية من ناحية، ولوجود بلدان غنية حاليا ولكنها لا زالت متخلفة اجتماعيا من ناحية ثانية.
في سيكلوجية الإنسان المقهور:
أعطى الدكتور (حجازي) مسمى “الإنسان المقهور” نظرا لعيش الإنسان في عالم من العنف المفروض. عنف يأتي من الطبيعة والآخر من الإنسان نفسه (السلطة والسياسة) أو غريمه الإنسان. هذا العنف يجعله يعيش في عالم الضرورة. في حالة فقدان متفاوت في قدرته على السيطرة على مصيره. لذا -وهذه الملامح الأولى النفسية- يبحث عن الوسيلة التي قد تضمن حمايته وذويه عن طريق التمسك بالماورائيات، التقرب من القوى التي تسيطر على الكون أو المنقذ المخفي والذي يكون بعكس صورته هو نفسه. عندما نستمع إلى الأدعية التي يبدأ بها يومه ونبحث عن نوعها نلاحظ إلى أي حد هي من نوع محاولة مواجهة هذا الاعتباط الذي يهدده، بالتمني السحري أو الاتكالية المفرطة.
نلاحظ موقفه من الطبيعة تارة الأم الرحوم المعطاء وتارة أخرى الأب القاسي العنيف الذي ينزل أشد العقاب وشر البلاء بأبنائه أو على غرار صورة الأم التي تمنع عن ولدها العطاء. وذلك ما يثير فيه أشد أشكال القلق الضمني بدائية.
من تلك الملامح النفسية التي تميزه أيضا، يحيى في لا وعيه العقاب على الذنب الوهمي الذي أقترفه -قد يبدو أحيانا وجوده بحد ذاته ذنب وكل تلك الصلوات هي محاولة تكفير خطأ وجوده- فهو مُتهم على الدوام على تقصيره، أول ما يفعله كمُتهم هو البحث عن خطيئة تناسب هذا التكفير، لا العكس! – كما هو المنطق-
أما بالنسبة للقدرية والأمثال الشعبية، كلها محاولات سحرية لإدخال بعض التنظيم على هذا الاعتباط، بغية السيطرة عليه.
أبرز ملامح مرحلة مأساة المعاناة الوجودية، هي الاجتياف Introjection والتبخيس Depreciation التي غرست في نفس الإنسان المتخلف لذا تتمثل عدوانيته وقهره ذاتيا على شكل مشاعر إثم ودونية. يزدري ذاته ويخجل منها ويود لو تهرب من مواجهتها، ويكيل النعوت السيئة لنفسه مثل الجبن والتخاذل -مثل أن يرى في قسوة الطبيعة استحقاق له على تخاذله- وكلما انهار اعتباره لذاته تضخم تقديره للمتسلط أو المسؤول ويرى فيه نوعا من الإنسان الفائق. ثم تظهر الملامح النفسية للمرحلة هذه مثل حالات الاستزلام والتقرب من المسؤول أو البوليس أو المالك. ويثار في نفسية الإنسان المقهور مشاعر القلق لتدفعه إلى حالة من الهجاس Obsession للحفاظ على النعمة يجب تكرار مظاهر الرضوخ والتبعية.
في المرحلة التي تليها وهي المرحلة الاضطهادية، يبدأ الإنسان بالانتقام بأساليب خفية مثل الكسل والتخريب أو من حيث الرمزية إلقاء النكات، مما يخلق ازدواجية في العلاقة من حيث الظاهر والباطن الخفي، وهنا يتجلى الكذب والمراوغة والتضليل. محاولة النيل تصبح قيمة بحد ذاتها واعتبارها نوعا من البراعة أو الحذق.
-وهنا يلاحظ الدكتور (حجازي) بأن الخطاب أو الأسلوب الذي أستخدمه الإنسان المقهور هو نفسه خطاب السلطة، التضليل في قوام اللغة. فالخطاب القائم على الإنسان المقهور مضلل تحت شعار الغايات النبيلة: الوعود الإصلاحية، الأخلاق، الرقي والتقدم، المستقبل الأفضل. والإنسان المقهور بدوره يدعي الولاء ويتظاهر بالتبعية. وهكذا يصبح الكذب من أهم الصفات التي كونت نسيج الوجود المتخلف. –
ولا شك في أن الفئة المتسلطة، بغية استمرار تسلطها، تعمل على تقوية الوازع الديني لدى الإنسان المتخلف. فكل ما يؤخذ منه عنوة، الله سيعوضه إياه وبذلك يضمن المتسلط عدم تحرك هذه الجماهير بقيام بثورة أو ما شابه.
تميز مشاعر الدونية بشكل عام موقف الإنسان المقهور من الوجود، لانعدام التكافؤ بين قوته وقوة الظواهر التي يتعامل معها. ويفتقد الطابع الاقتحامي في السلوك، وسرعان ما يتخلى عن المجابهة وبذلك يفقد موقفه العام من الحياة.
ومن الملامح الأساسية للإنسان المقهور هي الخوف: الخوف من فقدان القدرة على المجابهة، الخوف من شرور الآخرين. لذا يقع في انعدام الكفاءة الاجتماعية social disability والمعرفية. لذا يتجنب كل جديد، ويتجنب الوضعيات الغير المألوفة. يتجمد في حالة من الشلل الوجودي.
من ضمن ما يميز الإنسان المتخلف هو أنه في حالة دفاع دائم ضد افتضاح أمره. فهو يشعر على الدوام بأنه معروض ويخشى أن ينكشف أمره. لذلك كلمة الستر أو السترة لا نكاد التوقف عن سماعها في المجتمعات العربية. العزة والكرامة تمثلان المكانة الأساسية في خطاب الإنسان المقهور فبقاء الرأس مرفوعا والاحتماء من كلام الناس، قضايا مصيرية بالنسبة له.
والاحتماء من كلام الناس وبقاء الرأس مرفوعا لا يتمثل في الحياة المهنية أو الاجتماعية بل يسقط العار على المرأة: المرأة العورة، أي موطن الضعف والعيب. بسبب هذا الإسقاط يربط الشرف والكرامة بأمر جنسي ليس له أي مبرر من الناحية البيولوجية المحض.
ما بين المرحلة الاضطهادية والانتفاض، تجيء الحاجة إلى التوازن النفسي الضروري، فشل الوصول إلى قيمة ذاتية تعطي للوجود معناه، يولد أشد المشاعر إيلاما، هذه المشاعر تفجر بدورها عدوانية شديدة تزداد وطأتها تدريجيا بمقدار تراكمها الداخلي، حيث تتجاوز العدوانية الارتداد إلى الذات وتحطيمها، بل تصل حد الإسقاط على الآخرين.
عند الشعور بالاضطهاد، يبدأ بالتفتيش عن مخطئ يحمل وزر العدوانية المتراكمة بداخله لذا لا يجد سبيلا إلا اتهام الآخرين بالذنب وإمكانية تبرير الاعتداء عليه بحجة الدفاع عن النفس، مما يعطيه انطباعا ولو وهميا بالإفلات من القهر النفسي الذي يشعر به.
لا يكتفي الإنسان المقهور بتوجيه العدوانية إلى عدوه، بل إلى قرينة أيضا. تصبح استجاباته مفرطة وأقل نزاع يأخذ أبعاد مضخمة كالقتل على أفضلية المرور مثلا، ويصاحب ذلك استعداد دائم للهجوم أو الرد في أي لحظة، مما يؤدي إلى تضليل الوقائع في الحياة اليومية. ومن الخصائص الأخرى التي تحدث بين الإنسان المقهور وقرينه: الحسد والغيرة، والعين وما تقاوم به. كلها تطمس على حقيقة أنه خائف من أي جديد أو مكروه وما يتوقعه من الإنسان أمثاله. وفي هذه الحالة يظهر ما يسمى بالحظ ويخشى الحسد وهو الرغبة العدوانية في الحلول محل صاحب الحظ. وهنا تترسخ النظرة عن الآخر كعقبة، وعندما يتحول الآخر إلى عقبة في طريق يفقد معنى أنه انسان ويختزل إلى كلمة شر ولا بد من القضاء عليه وهو فعل يتخذ طابع القضاء على العقبة الوجودية -وبهذه السهولة المذهلة يتم بها العدوان-
مرحلة الانتفاض هي ما يسمى في علم الأحياء رد الفعل الحرج ويتلخص في الخيار بين الفناء أو المجابهة. والمجابهة هنا هي الدفاع المستميت أي التغلب على خوف الموت وتحدي الموت والانتصار على الموت.
الحاجة إلى خلاص سريع من خلال القتال. المقهور يريد السلاح (العصا السحرية ورمز الوجود الجديد) أن تحدث تغيرات بنتائج عاجلة، واختزال العمل الثوري أو ردة الفعل هذه إلى خوض معركة بنتائج مستعجلة كونه حمل السلاح الذي رد إليه الحرية الذاتية.
هنا تبرز عقدة الاستعلاء بدل عن النقص، وعقد الاستثناء بدل انعدام المكانة -النقيض تماما- وعقد الجبروت بدل عن الاستسلام. الاستثناء والاستعلاء والجبروت بالإضافة إلى ضعف التثقيف ودون انتماء سياسي واضح -كون أن اختياراته وتعامله مع الواقع ليس عن وعي منه- تودي به إلى ازدراء القيم السابقة وكل شيء مسموح وكل التجاوزات، ويحدث في أغلب الأحوال نوع من التركز حول الذات، فكأن العالم كله يجب أن ينتظم انطلاقا منه هو وتبعا لوضعه.
لا ينتهي تخلف الجمهور عبر إدخال الآلة أو ما شابه للمجتمع، كون مسألة التخلف لا تنتهي عبر مواجهتها من ناحية واحدة. علاج التخلف يجب أن يكون شموليا نظرا لأنه “هو عبارة عن نظرة الفرد للكون” لذا ينتج عن التخلف نواحي عديدة يجب مواجهتها وأشد هذه النواحي استعصاء على التغيير هي البنية النفسية التي يفرزها التخلف والتي تتضمن نظرته للكون.
بقلم: مروة كامل مراجعة وتحرير: أحمد بادغيش