المرأة وتحقيق الذات، عند المسيري
عبدالوهاب المسيري (1938-2008) مفكر وعالم اجتماع مصري، تدور أغلب أعماله عن اليهود والصهيونية، وعن العالم المعاصر الحديث ونقده وتفكيكه. في كتابه الذي لا يتجاوز ٦٠ صفحة (قضية المرأة: بين التحرير والتمركز حول الأنثى) يتحدث عن استقامة الحياة البشرية/المجتمع الإنسانى بعقد شراكة إنسانية/تكاملية بين الرجل والمرأة تبدأ فى إطار الأسرة وتنمو خلالها إلى حدود المجتمع.
بداية يرى (المسيري) أن هناك فرقا جوهريا بين حركتين رئيسيتين موضوعهما المرأة، الأولى هي حركة “تحرير المرأة” وهي:
حركة نشأت من رؤية “إنسانية” تنطلق من كون المرأة جزء من المجتمع وهي تتفهم الحقيقة الانسانية البديهيه البسيطة وهي أن ثمة اختلافات بيولوجية ونفسية واجتماعية بين الرجل والمرأة و بدلا من محاولة محو هذه الاختلافات فإن دعاة تحرير المرأة يبذلون جهدهم للحيلولة دون تحولها إلى ظلم وتفاوت اجتماعي أو انساني يؤدي الى توسيع الهوة بين الذكور والإناث. ومن ثم يطالبون بأن تحصل المرأة على حقوقها سياسية كانت (حق المرأة في الانتخاب والمشاركة في السلطة) أم اجتماعيه (حق المرأة في الطلاق وفي حضانة الأطفال) أم اقتصادية (مساوة المرأة في الأجور مع الرجل). أي ان حركة تحرير المرأة ترى أنه ثمة إنسانية مشتركة بين كل البشر، رجالاً ونساءً، وأنها الإطار الذي نبحث داخله عن تحقيق المساواة.
بينما الحركة الثانية هي مايُطلق عليه feminism ويترجمها (المسيري) بحركة “التمركز حول الأنثى” وهي:
حركة ظهرت في عصر ما بعد الحداثة تتمركز حول الأنثى كموضوع مادي، تبحث لها عن هوية/ ذات/ إنتماء مستقل عن المجتمع. و المرأة هنا: متمركزة حول ذاتها، مكتفية بذاتها، تود اكتشاف ذاتها وتحقيقها خارج أي إطار اجتماعي، في حالة صراع كوني أزلي مع الرجل المتمركز حول ذاته، وكأنها الشعب المختار في مواجهة الأغيار. هذه الحركة تنكر الانسانية المشتركة ولذا لا يمكن ان ينضم إليها الرجال، فالرجل لا يمكنه ان يشعر بمشاعر المرأة كما انه مذنب يحمل وزر التاريخ الذكوري الأبوي كله رغم أنه ليس من صنعه!
تتضمن هذه الحركة ايضا محاولة تحييد اللغة وجعل كل ماهو خاص بالذكر موضع لشراكة أنثوية، “مثلا في الإنجليزية تغيير استخدام he إلى s/he، وتغيير women إلى womyn، وتغيير spokesman إلى spokesperson واستخدام ألفاظ حيادية لا تحدد جنسًا”. ويصل هذا الأمر إلى تطرفه في تمجيد السحاق، حيث المرأة لا تحتاج إلى الرجل للذة، ولا تحتاج إليه للإنجاب وبالتالي انقسام العالم إلى ذكور متمركزين على ذواتهم، وإناث متمركزات على ذواتهن. هذا الخطاب التفكيكي يعلن حتميه الصراع بين الذكر والانثى وضرورة وضع نهاية للتاريخ الذكوري الابوي كما يهدف الى توليد القلق والضيق والملل وعدم الطمأنينة في نفس المرأة عن طريق إعادة تعريفها بحيث لا يمكن لها ان تحقق هويتها الا خارج اطار الاسرة. فإذا انسحبت المرأة من الأسره، تآكلت الاسره وتهاوت أهم المؤسسات التي يحتفظ الإنسان من خلالها بذاكرته التاريخية وهويته القوميه ومنظومته القيميه و أهم الحصون ضد التغلغل و الهيمنة الغربية.
أما بالنسبة إلى الأمومة فيرى (المسيري) أنه بالرغم من أنها قد تكون فطرية في كل أنثى كرغبة قبل أن تكون واجبا، إلا أنها قد تصبح عبئا في مجتمع تتولى فيه ربات المنزل – المتفرغات – الانشغال بالغيبة والتلفاز وتوافه الأمور عموما، حتى ليبدو أن العمل خارجا هو الوسيلة الوحيدة للمرأة كي تنأى عن هذه الأجواء وتفرغ حاجتها لإثبات الذات و التواصل الاجتماعي. ولذلك قد يكون من الصعب على المرأة أن تستقر في المنزل إذا كان الزوج لا يقاسمها شيئا من أعباء المنزل ولا يقدر جهودها فيغدو هو (محققا لذاته بشكل مطلق) و هي (لاغية لذاتها بشكل مطلق). كما يطالب أيضا بإعادة صياغة رؤية الناس لمفهوم العمل من أنه:
مجرد عمل المرأة في رقعة الحياة العامة نظير أجر – أي العمل الذي يؤدي إلى منتج مادي مثل سلع / خدمات فقط- ليصبح أيضا العمل المنتج إنسانياً ( وبذلك نؤكد أسبقية الإنساني على المادي والطبيعي). وهنا تصبح الأمومة أهم “الأعمال المنتجة” وماذا يمكن أن يكون أكثر أهمية من تحويل الطفل الطبيعي إلى إنسان اجتماعي؟ ومن ثم يقل إحساس المرأة العاملة في المنزل بالغربة وعدم الجدوى, ويزداد احترام الرجل لها ويكف الجميع عن القول بأن المرأة العاملة في المنزل لا تمارس عملا! وبالتالي ينقذ المرأة من التوتر الناشئ عن الرغبة في تحقيق الذات المشروط بالتخلي عن الأسرة إلى تحقيق الذات ضمن نطاق الأسرة.
و بالتالي بدلا من أن يكون الحديث عن تحرير المرأة حتى “تحقق ذاتها” ومتعتها قد يكون من المفيد ان ندرس ماحولنا لنكتشف ان:
أزمة المرأة هي جزء من أزمة الإنسان الحديث والتي تنبع من الحركية المرتبطة بتزايد معدلات الاستهلاك ومن وجود هذه الاختيارات الاستهلاكية التي لاحصر لها والتي تحاصرنا وتحد من حركتنا” ولذلك “قد يكون من الأكثر رشداً وعقلانية ألا نطالب بـ”تحرير المرأة” وألا نحاول أن نقذف بها هي الأخرى في عالم السوق و الحركية الاستهلاكية وخاصة من خلال صناعتي الأزياء و التجميل واللتان تولدان في المرأة – من خلال الآف الإعلانات- الإحساس بأنها إن لم تستخدم هذه المساحيق والعطور والكريمات تفقد جاذبيتها وتصبح قبيحة/غير مرغوبة ومع ترسيخ هذه القناعة وتغيير المساحيق كل عام تصبح المرأة سوقا متجددا لا ينتهي. وأن نطالب بدلاً من ذلك بتقييد الرجل أو وضع قليل من الحدود عليه وعلى حركيته بحيث نبطئ من حركته فينسلخ قليلاً عن عالم السوق والاستهلاك وبذلك يتناسب إيقاعه مع إيقاع المرأة و الأسرة و حدود إنسانيتنا المشتركة انطلاقاً من هذه الرؤية لا بد أن يعاد تعليم الرجل بحيث يكتسب بعض خبرات الأبوة و العيش داخل الأسرة و الجماعة.
ويختتم (المسيري) كتابة بالرجاء أن لا يُفهم أنه ينكر وجود قضية للمرأة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية أو أنه لا يوجد درجات من التمييز ضدها أو حتى أنه يطالب بمنع المرأة من العمل في رقعة الحياة العامة:
كل ما أطالب به هو أن ندرس قضيه المرأة داخل إطارها التاريخي والإنساني وأن ننفض عن أنفسنا غبار التبعية الإدراكية و نبحث عن حلول لمشاكلنا نولّدها من نماذجنا المعرفية ومنظوماتنا القيمية والأخلاقية ومن إيماننا بإنسانيتنا المشتركة، و هي منظومات تؤكد أن المجتمع الإنساني يسبق الفرد (تماماً كما يسبق الإنسان الطبيعة/المادة) ولذا بدلاً من الحديث عن “حقوق الإنسان” مما يضطرنا إلى الحديث عن “حقوق المرأة” الفرد، ثم عن “حقوق الطفل” الفرد، قد يكون من الأجدر بنا أن نتحدث عن “حقوق الأسرة” كنقطة بدء ثم يتفرع عنها وبعدها “حقوق الأفراد” الذين يكوّنون هذه الأسرة. أي أننا سنبدأ بالكل (الإنسان الاجتماعي) ثم نتبعه بالأجزاء الفردية.