المعرفة والفكر الفلسفي

إشكالية التحيز عند المسيري

d8a7d984d985d8b3d98ad8b1d98a

من أهم أفكار د. عبد الوهاب المسيري –مفكر مصري- والتي استخدمها في العديد من كتبه وأههمها موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، هي فكرة النموذج. واختصاراً هي تجريد نموذج من الواقع بحيث يربط بين عناصر لأول وهلة تبدو لا صلة لها ببعضها، ثم اختبار هذه العلاقة، بعدها يتم اعتماد النموذج، وهذا النموذج يكون خريطة عن طريقها نركز على المعلومات ذات العلاقة بموضوع الدراسة مباشرة، واستبعاد تلك التي لا تخص للموضوع مباشرة، بحيث لا يتشتت جهدنا، ولا يكون مجرد حشر لمعلومات لا تكون صورة تفسيرية للواقع، يقول :

إحدى الصفات المهمة للنموذج أنه يساعد على الرؤية المتعمقة المركبة كلما ازداد تركيبية، وكلما اتسع نطاقه ليضم معلومات وظواهر كانت مهملة أو مهمشة في الماضي. خذ على سبيل المثال الإمبريالية الغربية، ينظر إليها الكثيرون بحسبانها “انحرافاً” عن مسار الحضارة الغربية الليبرالي الديموقراطي الإنساني ..إلخ، ومن ثم يستبعدون كماً هائلاً من المعلومات. إن غيرنا النموذج بأن نزيده تركيبية ونوسع نطاقه، ورأينا الإمبريالية بحسبانها جزء عضوياً من هذه الحضارة وتعبيراً متعيناً عن شيء أساسي وجوهري فيها، فإن عدداً كبيراً من المعلومات الجديدة سيدخل في نطاق النموذج التحليلي، وتصبح ذات أهمية محورية تفسيرية. سنكتشف -على سبيل المثال- أن إبادة الشعوب الأخرى ليست مسألة إنحراف، وإنما نمط عام متكرر: ملايين الهنود في الأمريكيتين- السكان الأصليون في استراليا- سكان الخانات التركية المجاورة لروسيا على يد الدولة القيصرية- إلقاء القنبلة الذرية على اليابان (دون حاجة عسكرية ماسة لذلك)-  الفلسطينيون (الطرد والإبادة)- الجزائريون- شعب فيتنام. كما سنكتشف مثلاً أن قفزة الولايات المتحدة في الثلاثينيات من القرن الماضي تعود إلى حد كبير إلى العمالة السوداء الرخيصة (التي قدمها ملايين العبيد السود)، وأن مجموع ما سلبته إنجلترا من الهند إبان ثورتها الصناعية يفوق كل ما أنتجته في تلك الفترة. إن حساباتنا ستكون مختلفة، والمعلومات التي نبحث عنها ستكون مختلفة، وستظهر لنا بلاهة التحدث عن “التقدم الغربي” بحسبانه نتيجة عناصر خاصة بالمجتمعات الغربية.

ويتحدث عن ذات الموضوع في مكان آخر، خاصة فيما يتعلق بالتحيز الحضاري –وهو إشكالية شغلته كثيراً- وكيف أن كل ما يأتينا وتشربناه من الحضارة الغربية يكون محملاً بتحيز الغرب، فنستبطن نحن تحيزاتهم ضدنا وضد غيرنا من الشعوب، وننظر للعالم ولأنفسنا بتحيزاتهم هم، فيقول في معرض نقضه لفكرة (تقدم الغرب) التي كان يلهج بها كثير من الكتاب والمثقفين في عصره:

إننا سنكون بشراً من الدرجة الثالثة بشكل دائم، وإذا حثثنا الخطى أصبحنا من الدرجة الثانية، وهذا أقصى ما نطمح إليه، لأن الدرجة الأولى هي الغرب ذاته الذي يتحرك باستمرار في الاتجاه الذي قرره لنفسه، والذي قررته له حركياته التي لا هدف لها، هذا يجعل من الضروري استرداد الإمبريالية كمقولة تحليلية، فلا يمكن دراسة تاريخ الديموقراطية في الغرب وتاريخ المجتمع المدني دون دراسة المشروع الغربي الإمبريالي. فديموقراطية إنجلترا تستند إلى حقيقة أن هذا البلد حقق الأمن الاجتماعي في الداخل، عن طريق تصدير كل مشكلاته إلى الشرق، (وما الصهيونية سوى تصدير المسألة اليهودية إلى الوطن العربي). وهناك إحصائيتين في غاية الدلالة: الأولى بخصوص ما نهبته إنجلترا من الهند وأنه يفوق كل ما أنتجته إبان الثورة الصناعية (فما بالك بحجم ما نهب من الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس؟). والثاني بخصوص الرأسمالية الأمريكية وقفزتها الهائلة التي حققتها في منتصف القرن التاسع عشر من خلال عدة عناصر كان من أهمها صناعة المنسوجات القطنية، والتي تستند على محصولات القطن الرخيصة. هذه المحصولات كان ينتجها آلاف العبيد السود، الذين يشكلون عمالة رخيصة تمت سرقتها من إفريقيا ثم الهيمنة عليها وقسرها على أن تعيش تحت أقسى أنواع الظلم ودون حد الكفاف. إن الإمبريالية ليست غزوة استعمارية ولا مجرد انحراف عن مسار الغرب، وإنما هي من صميم هذه الحضارة، ولذا لا بد من أخذها في الحسبان باعتبارها مقولة تحليلية.

ثم يطرح المسيري موضوع الدولة الصهيونية، والتي يراها جيباً استيطانياً زرعه الغرب لعدة أغراض من بينها التخلص من يهود شرق أوروبا:

هذه الحضارة الغربية الحديثة التي تدافع عن الحرية وحقوق الإنسان والعدل والمساواة والعدالة وكمية أخرى من القيم النبيلة السامية، لماذا لا تصدر لنا هذه القيم فيما تصدره من سلع وأشياء؟ وعبر تاريخ مصر الحديثة والجزائر الحديث وسوريا الحديثة، من كان يقف ضد الديموقراطية والاستنارة؟ ألم تكن جيوش أوربا هي التي تقصف بالمدافع الجماهير العربية التي تطالب بحريتها وحقوقها؟ ألم تكن هذه الجماهير هي التي ترفع لواء القيم الغربية، النبيلة السامية وتموت من أجلها، بينما تقف لهم جيوش أوربا بالمرصاد؟ من الممثل الرئيس للحضارة الغربية في شرقنا العربي؟ أليست هي الدولة الصهيونية؟ دولة قامت على أرض الآخرين، ولا تستمد شرعيتها من العقل أو الاستنارة أو قيم نبيلة أو سامية، وإنما من منطق القوة وشريعة الغاب، دولة تصدر عن فلسفة عنصرية غيبية إرهابية، وتشرع قوانين عنصرية غيبية إرهابية، وتمتلك جهازاً “أمنياً” قوياً لقمع العرب في داخل الأرض المحتلة، وفي ضربهم خارجها؟

زر الذهاب إلى الأعلى