الثورة النيوليثية
حياة مستقرة
عندما يفكر الإنسان في العصر النيوليثي –الثورة الزراعية- يستحضر آثار ستونهنج الصخراوية الشهيرة الواقعة في سهل ساليسبري بإنجلترا. ترجع هذه الآثار إلى ٣٠٠٠ ما قبل الميلاد، ما قبل المسيح، وهي مكونة من مجموعة صخور مركبة على شكل دائري يفوق أي عمل فني بأوروبا آنذاك. تمثل آثار ستونهنج التطورات الثقافية التابعة للثورة النيوليثية – أهم تطور في تاريخ الإنسان. طريقة حياة الإنسان اليوم بداخل المنازل المستقرة في مدن مختلفة الأحجام بجانب عدد من السكان تحت ظلال مجموعة قوانين تحمي حقوقه ومحاصيل يجني منها غذائه، وأوقات الفراغ التي يستغلها متابعة العلم، الاختراع، والاستكشاف ترجع إلى الثورة النيوليثية التي وقعت ما قبل ٥٠٠٠ – ١١,٥٠٠٠ سنة تقريباً. هذه الثورة أدت إلى تكوين نمط حياة الإنسان اليوم وهي نتيجة تطور الأدوات اللازمة لجني وزراعة المحاصيل، وترويض الحيوانات لتهيئتها للعمل على المزارع.
قبل الثورة النيوليثية كان الإنسان يعيش بين عشيرته بمساكن مؤقتة يرحل عنها بعد شهور قليلة باحثاً عن الغذاء ولا يملك إلا ما يمكن حمله بداخل جيبه أو حقيبته. التحول المهول الذي حدث بعد الثورة النيوليثية أدى إلى ظهور المتع والرخاء الذي نتنعم به اليوم مثل: تنوع الأغذية وتوفرها، المساكن المريحة، والأصدقاء.
1ستونهنج، ٣,٠٠٠ قبل التاريخ، سهل ساليسبري بمقاطعة ويلتشير جنوب غرب إنجلترا.
الفن النيوليثي
التغيرات المهولة في طرق حياة الإنسان أدت إلى تحول في أنواع الفنون التي يصنعها الإنسان. أعمال النحت النيوليثي أصبحت أضخم نظراً لعدم حاجة الإنسان إلى حملها وصناعة الفخار أصبحت أكثر انتشاراً بين الإنسان لحفظ ما جنى من المحاصيل الزراعية. في هذه الحقبة ظهرت الخمور والأعمال المعمارية بما فيها من التصميم الداخلي والخارجي. سنة تلو الأخرى بدأ الإنسان بالاستقرار في مكان واحد.
من الغير محتمل أن تكون آثار ستونهنج الصحراوية أعمال العصر الباليوثي، وهو العصر السابق للعصر النيوليثي ويسمى بالعصر الحجري القديم الذي بدأ منذ ٢,٣٠٠,٠٠٠ سنة خلت في أفريقيا، الرحل. أن ينصب رجل باليوثي عمل فني أو تذكاري بهذا الحجم في منطقة من غير المحتمل أن يرجع إليه أو يمر به مرة أخرى مضيعة للوقت والجهد. فالجهد المطلوب لبناء هكذا عمل ضخم فقد بلغ ستونهنج تقريباً ٣٢٠٠ قدم في المحيط والحجارة التي يتألف منها الطوق الخارجي تزن بقدر ٥٠ طن. كانت الأحجار الصغيرة، التي يصل وزنها إلى ٦ أطنان، مستخرجة من مسافات بعيدة تصل إلى ٤٥٠ ميلاً. معنى ستونهنج واستعماله غير واضح، لكن تصميمه، تخطيطه، وإخراجه لا يمكن تنفيذه إلا من خلال ثقافة ذات سلطة لا يمكن التشكيك أو الاعتراض عليها. هنا ثقافة كانت قادرة على تجميع مجموعة من البشر على عمل شاق على فترات طويلة من الزمن. هذه خاصية أخرى من خصائص العصر النيوليثي.
جماجم الجص (جبس)
وجدت أوائل الأدلة على الطقوس الدينية أثناء العصر النيوليثي ولطالما كانت الطقوس الدينية إلهام دائم للفنون الجمالية، الفنون الجمالية هي تلك الفنون التي ترتبط بالجمال والحس المرهف اللازم لتذوقها. عند بدء استخدامه كان يستخدم في وصف عدد محدود من الفنون المرئية كالنحت والطباعة وبشكل أساسي الرسم. ربما أكثر ما يجب الإنتباه لبلاد الشام/سوريا التاريخية، اسم تاريخي لجزء من المشرق العربي يمتد على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط إلى حدود بلاد الرافدين، هي جماجم الجص (الجبس) المنتشرة في ستة مناطق بما فيها أريحا التي تعرف بمدينة فلسطينية تاريخية تقع علي الضفة الغربية بالقرب من نهر الأردن وعند شمال البحر الميت. في الحقبة النيوليثية ٧,٠٠٠ – ٦,٠٠٠ ما قبل الميلاد غالباً ما كانوا الموتى يدفنون تحت أرضية المسكن وفي بعض الحالات كانت رؤوس الموتى تقلع وتغطى بالجص (الجبس) للحفاظ على الهيئة الإنسانية للوجه حيث كانت توضع الأصداف مكان العيون وتستعمل الأصباغ لرسم الشعر والشارب.
2جماجم الجص (الجبس) من العصر النيوليثي قبل استعمال الفخار ٧,٠٠٠- ٦,٠٠٠ قبل الميلاد، وجدت في موقع يفتاهيل الأثري في الجليل الأسفل، إسرائيل
التفسير التقليدي للحفاظ على هذه الجماجم كانت راجعة إلى أسباب الحفظ وعبادة الأجداد الذكور. لكن الأبحاث المؤخرة كشفت عن عدد ليس بالقليل من جماجم الجص (الجس) راجعة للنساء والأطفال بين الواحد وستون من الجماجم التي عثر عليها. ربما الجماجم لم تكن ذات صلة بالطقوس الدينية بل كانت وسيلة للحفاظ على ذكرى الأموات من قبل أحبابهم.
لم يكن لدى الإنسان النيوليثي لغة كتابية فلا يمكننا أن نجزم معرفة الأسباب. )أول نماذج تطور الكتابة ظهرت في الحضارة السومرية في بلاد مابين النهرين في أواخر الألفية الرابعة قبل الميلاد ولكن هناك علماء يعتقدون أن الكتابة بشكلها الأولية وضعت خلال العصر الحجري الحديث -النيوليثي)
الكاتبة: الدكتورة سنتا جيرمان، استاذة مساعدة في الكلاسيكيات والإنسانيات، جامعة ولاية مونتيكلير
المترجمة: جمانة سلامة
المصدر: (German, 2013)