اخلق بعنف .. ألبير كامو عن الفنان كصوت للمقاومة وكمحرر للمجتمع
هذا المنشور هو نتاج للتعاون بين منصة ساقية ومنصة إكليل، ضمن مبادرة (عشر سواقي 2019)
“أولئك الذين يقولون لك “لا تضمن الكثير من السياسية في فنك” ليسوا صادقين” كانت هذه ملاحظة (تشينوا أتشيبي) في محادثته الرائعة المنسية مع (جيمس بالدوين). “إذا ما دققت النظر بالأمر سترى أنهم نفس الأشخاص السعيدين بالوضع كما هو … وما يقولونه لا يزعج النظام”. وقبل نصف قرن من ذلك بسط (ويستن هيو أودن) و فصل هذه الفكرة حين أكد “إن عمل الفن المحض هو بذاته فعل سياسي”.
كتب (ألبير كامو) [1913-1960] في نص خالد و عميق جدًا بعنوان “اخلق بعنف” أن مهمة الفنان الجوهرية هي دفع المجتمع للأمام وذلك بإزعاج النظام، وهو نص كُتب في زمن أودن لكنه مرتبط بنا بشدة. وهذا النص هو في الأصل محاضرة أُلقيت في جامعة السويد بتاريخ ديسمبر سنة 1957 بعد أسابيع من حصول (كامو) على جائزة نوبل في الأدب ليكون بذلك ثاني أصغر فائز بها، والتي نالها لعمله الذي “يسلط الضوء ببصيرة نافذة و جدية على مشاكل الوعي الإنساني في زماننا“، والذي أُضيف لاحقًا إلى مجموعة مقالاته المهمة والتي نُشرت بعنوان (المقاومة، التمرد، و الموت).
قبل عقدين من دعوة (أودري لورد) الفنانين للتمسك بمسؤوليتهم تجاه “تحويل الصمت إلى لغة وفعل” كتب (كامو):
اعتاد الرجل الشرقي الحكيم دومًا أن يطلب من الآلهة في صلواته أن تكون عطوفة جدًا لتنقذه من العيش في عصر مشوق، ولأننا لسنا حكماء لم تحمنا الآلهة ونحنُ نعيش في عصر مشوق. على أية حال يفرض علينا عصرنا أن نهتم به ونقبل عليه. يعرف كتاب اليوم هذا: فإن تكلموا هوجموا وانتقدوا، وإن تواضعوا والتزموا الصمت لُوموا بشدة على صمتهم. وفي غمرة هذه الضجة والجلبة لا يمكن للكاتب أن يتأمل أن يبقى نائيًا بنفسه ليحث التأملات والصور العزيزة عليه. وحتى اللحظة الحالية ظل النأي بالنفس والانعزال ممكنًا في التاريخ. فحين لا يوافق أحدهم على شيء يمكنه أن يبقى صامتًا أو يتحدث عن أمر آخر، ولكن كل شيء تغير اليوم بل وحتى للصمت آثار خطيرة. فاللحظة التي ينظر فيها للامتناع عن الاختيار ذاته كخيار ويُعاقب على مثله أو يُشاد به بصبح فيها الكاتب طوعًا أو كراهيةً مُدموغًا في الخدمة. وتبدو لي “مدموغ” كلمة أدق في هذا الصلة من “ملتزم”. فبدلًا من التسجيل والانضمام ببساطة للخدمة التطوعية يؤدي الفنان الخدمة الإلزامية.
[…] من السهل رؤية كل ما يمكن للفن أن يخسره من هذه الالتزامات الدائمة: الطمأنينة كبداية وتلك الحرية المقدسة الجلية في أعمال (موزارت). من الأسهل أن نفهم لِم لأعمالنا الفنية جاذبية تسترعي النظر ولِم تنهار فجأة. ومن الواضح لِم لدينا صحافيون أكثر من كتاب المحتوى الإبداعي، وهواة في الرسم أكثر من (بول سيزان)، ولِم احتلت الحكايا العاطفية أو الروايات البوليسية محل (الحرب والسلام) أو (صومعة بارما).
ومع ذلك قبل خمس سنوات من تأكيد (بالدوين): “على المجتمع أن يفترض أنه مستقر، لكن على أن الفنان أن يعرف وعليه أن يُعرفنّا أنه لا وجود لشيء مستقر وثابت خارج الجنة” أصر (كامو) على وجود كسب أكثر من الخسارة في التزام الفنان بالعدالة الاجتماعية:
أن تخلق اليوم يعني أن تخلق بعنف. فأي منشور هو فعلٌ، وهذا الفعل يعرض الواحد لعواطف عصر لا يغفر شيئًا. لكن السؤال ليس ما إذا كان هذا ضارًا بالفن أم لا، السؤال لكل هؤلاء الذين لا يقدرون على العيش دون الفن ودون ما يمثله هو مجرد اكتشاف كيف تكون حرية الخلق الغريبة ممكنة بين كل أجهزة الأمن هذه التابعة لكل هذه الأيدولوجيات؛ كم كنيسة يا للعزلة!.
بعد قرن من سخرية (رالف إمرسون) التي قال فيها أن “الحشود وقحة، سخيفة، لا يُمكن التحكم بها، مؤذية في مطالبها وتأثيرها، ويجب على الواحد ألا، يتنازل لها عن أي شيء، ولكن موجودة لتروضها، لتشق صفوفها، لتفرقها، ولتفككها، ولتسحب الأفراد منها ولتخرجهم” اعتبر (كامو) القوى أنها التي تشوه العمل الإبداعي وتتسبب بـ”استسلام الفنان“. عن إحساس الفصل والتمزق المرتبط بعصرنا بما يُسمى “مواقع التواصل الاجتماعي“، حيث يوجد تعسف الحشود، كتب يقول:
ما يميز عصرنا بالفعل هو الطريقة التي تنفجر فيها الحشود و حالتها البائسة في الحساسية الراهنة الحديثة. نحن نعلم الآن أنها موجودة بينما كانت لدينا القابلية لنسيانها. و إذا كنا أكثر إدراكًا فإنها أصبحت أفضل ولا تخاف ولا تخشى لا بسبب الأرستقراطية، الحركة الفنية أو غيرها، ولكن لأن الحشود أصبحت أقوى وأصبحت تمنع الناس من نسيانها.
بالإضافة إلى عوامل اجتماعية أخرى تعمل تعسفية الرأي العام هذه على: “تثبيط الخلق الحر بتقويض المبدأ الأساسي و هو إيمان الفنان بنفسه“. كتب (إدوارد إستلين كامينجز) في نفس الحقبة راصدًا أهمية حماية ذلك العنصر الأساسي في نصيحته الرائعة للفنان: “أن تكون لا أحد سوى نفسك في عالم يحاول جاهدًا ليل نهار أن يجعلك كل أحد آخر عداك يعني أن تخوض غمار المعركة الأقسى الأصعب التي يمكن لأي إنسان أن يخوضها“. بعيدًا عن هذا الامتصاص لفكرة الحرية الإبداعية والشجاعة يجادل (كامو) حول نشأة الكذبة الخطيرة أن الفن ما هو إلا ترف ورفاه. فبعد حوالي عقدين من إصرار (ريبيكا ويست) في غمار الحرب العالمية الثانية على أن:” الفن ليس ألعوبة بل ضرورة… ليس قطعة زخرفية بل كوبٌ تُسكب فيه الحياة ويُقرب من الشفاه ويُذاق طعمها” اعتبر (كامو) أن ما أوصل المجتمع الحديث إلى مثل هذه الإساءة العميقة في الفهم هو جوهر الفن وغرضه:
إذا ما كيف الفن نفسه مع ما يرغب به أغلبية مجتمعنا سيصبح ترفيهًا فارغًا بلا معنى. وإذا رفض المجتمع دون تبصر، إذا ما قرر الفنان أن يلجأ إلى حلمه لن يعبر الفن عن شيء سوى الإنكار. و هكذا علينا أن نملك نتاج الترفيهين أو نتاج النحويين النظامي وفي كلتا الحالتين سيؤدي هذا إلى اجتثاث الفن عن الواقع المعاش. لحوالي قرن كنا نعيش في مجتمع ليس حتى مجتمع المال، كان يمكن أن يثير الذهب الشهوة الجسدية، ولكن مجتمع الأفكار التجريدية للمال. إذ يمكن تعريف مجتمع التجار على أنه مجتمع تختفي فيه الأشياء لصالح الدلائل. فحين تقدر وتزن الطبقة الحاكمة ثرواتها لا بفدان من الأرض ولا بسبيكة من الذهب ولكن بعدد الشخصيات التي تناسب مثاليًا عدد من عمليات التبادل، وهي بالتالي تدين نفسها لتحديدها نوعًا من الأوهام في عمق تجربتها ومحيطها. إن المجتمع المبني على الدلائل هو في جوهره مجتمع صناعي حيث تلبى فيه حاجة الرجل الجسدية الحقيقة كأنها شيء صناعي. و لا داعي للتفاجئ بأن مجتمع كهذا يختار كدين له قانونًا أخلاقيًا لمبدأ رسمي نظامي وأنه يخط الكلمات “الحرية” و”المساواة” على جدران سجونه وكذلك على معابده المالية. ولكن لا يمكنك تلطيخ شرف الكلمات دون عقاب، إذ أن أكثر قيمة شوهت وحرف معناها اليوم هي بالطبع قيمة الحرية.
مرددًا أفكار الفيلسوفة والناشطة السياسية (سيمون فايل)، التي اعتبرها (كامو) “الروح العظيمة الوحيدة في زماننا“، حول الفرق الحسم الهام بين حقوقنا ومسؤولياتنا رثى (كامو) تبعات هذا التسليع للفن والحرية:
استخدم مجتمع التجار لمئة سنة الحرية استخدامًا حصريًا و فردانيًا معتبرًا إياها حقًا لا واجبًا، ولم يخشى أن يستخدم الحرية المثالية كما يمكن غالبًا أن تكون لتبرير اضطهادات حقيقية جدًا. ونتيجةً لذلك هل من مدعاة للدهشة في حقيقة أن مجتمعًا كهذا يطلب من الفن ألا يكون أداةً لتحرير ولكن ممارسة طفيفة عديمة العواقب و ترفيهًا محضًا؟
ثم يبحث في التمثيلية الاجتماعية التي تبتلع العمل الإبداعي التي تنفخ الأنا وتقلص الفن:
إن الفن لغاية الفن أي تسلية الفنان المنعزل هو الفن الصناعي لمجتمع كاذب متصنع و أناني. والنتيجة المنطقية لنظرية كهذه هو فن الزمر أو الفن الرسمي النظامي الذي يقتات على التكلف والأفكار التجريدية و ينتهي بتدمير وإتلاف كل ما في الواقع. وعلى هذه الحال ستجذب بضعة أعمال بضع أفراد بينما تفسد عدة ابتكارات الفظة عددًا آخر، وأخيرًا سيتشكل الفن خارج المجتمع وسيجتث نفسه من جذروه الحية. وشيئًا فشيئًا سيكون الفنان وحتى ول عرف وقدر وحيدًا أو على الأقل معروفًا في بلده على محطات الإذاعة أو الصحافة متوسطة الانتشار والتي ستعرض فكرة مبسطة ومناسبة عنه. كلما تخصص الفن في الحقيقة كلما أصبح الترويج له ونشره ضرورة. وهكذا سيراود ملايين الأشخاص الإحساس بمعرفتهم لهذا الفنان العظيم في زماننا أو ذاك لأنهم عرفوا من الصحف أنه يربي طيور الكناري أو أن زواجه لم يدم أكثر من ستة أشهر. يتمثل الأكثر شهرة اليوم و ذكرًا في ما يعجب به أو يبغض دون حتى قراءته. يجب على أي فنان ينوي الشهرة في مجتمعنا أن يعرف أنه ليس هو من سيشهر ولكن شخصٌ آخر باسمه، آخر سيهرب منه في نهاية المطاف وسيقتل على الأرجح يومًا ما الفنان الحقيقي بداخله.
ومع ذلك يدين (كامو) الفصل الساذج بين الأصالة الفنية و ما يمكن أن نسميه اليوم “البيع” لمجتمع رافض تمامًا، بما في ذلك عملات المشاهير، ما هو إلا ارتكاب لنوعٍ آخر من الغطرسة التي تفصل الفن عن مواده الأولية. بشعور سيردده (بالدوين) لاحقًا بعد سنوات في تذكيره لنا بما جعل (شكسبير) أعظم شاعر في اللغة الإنجليزية وهو أنه “وجد شعره حيث يوجد الشعر: في حيوات الناس” يكتب (كامو):
نتيجة لرفض كل شيء حتى تراث فنه يتوهم الفنان المعاصر أنه يخلق قانونه الذاتي و يعد نفسه في النهاية الرب، و يظن في نفس الوقت أنه قادرٌ على خلق واقعه بنفسه. لكنه وبمنأى عن مجتمعه لن يخلق سوى أعمالٍ رسمية أو تجريدية ستكون ممتعة كتجارب لكنها مجردة من الخصوبة التي نقرنها بالفن الحقيقي المطلوب للوحدة والتضافر.
بل إن (كامو) يقول بأن على الفنان أن يتصل بواقع زمانه أو زمانها منتزعًا منه شيئًا خالدًا وعالميًا:
على الفنان فقط أن يترجم معاناة وسعادة الكل إلى لغة يفهمها الكل وسيُفهم عالميًا. وكمكافأة على إيمانه التام المؤكد بالواقع سيحقق التواصل الكامل من بين الجميع.
إن فكرة التواصل العالمي هذه مثل أعلى لأي فنان عظيم. وخلافًا للفرضية الحالية إذا كان هناك من لا حق لها بالعزلة فهو الفنان، فالفن لا يمكن أن يكون حوارًا داخليًا. حين يحتكم أشد الفنانين عزلة وأقلهم شهرة للجيل الجديد فإنه بالكاد يعيد تأكيد رسالته الأساسية. باعتبار أن الحوار مع الصم والغافلين المعاصرين مستحيل فإنه يحتكم إلى حوار أوسع نطاقًا مع الأجيال القادمة.
ولكن للحديث عن الجميع مع الجميع على الواحد أن يتحدث عما يعرفه الجميع وعن الواقع المشترك بيننا جميعًا. البحر، الأمطار، الحتمية، الرغبة، الصراع مع الموت هذه كلها أشياء موحدة بالنسبة لنا جميعًا. نحن نشبه بعضنا البعض فيما نراه معًا، وفيما نعانيه معًا. الأحلام تختلف من فرد لآخر، لكن واقع العالم مشترك بيننا جميعًا. لذلك فإن السعي للواقعية مشروع، لأنه بالأساس مرتبط بمغامرة الفنان.
على خطى زميله الموسوعي (هنري بوانكاريه) وجزمه : “أن تخلق يعني أن تختار” و تأكيدًا لقناعة (أورسولا لي جوين): “لن نكون أحرارًا إن لم نتخيل الحرية” يجادل (كامو) حول مسؤولية الفنان لتخيل بدائل أسمى وأرفع للوضع الراهن، للنظام، للواقع الحاضر:
لا يُمكن إعادة إنتاج الواقع دون ممارسة الاصطفاء… ولذا فإن الشيء الوحيد الضروري هو إيجاد مبدأ للاختيار سيمنح العالم شكلًا. ومبدأ كهذا موجود لا في الواقع الذي نعرفه لكن في الواقع الذي سيكون ببساطة المستقبل. ولإعادة الإنتاج كما ينبغي على الواحد أن يصور أيضًا ما سيكون.
[…] يختار الفنان هدفه بقدر ما يختاره هدفه. إن الفن بمعنى من معانيه هو التمرد على كل ما هو عابر وغير مكتمل في العالم. وبالتالي فإن هدفه الوحيد هو منح الواقع شكلًا آخر مع أنه غير مضطر لحفظه كمصدر لشعوره. وفي هذا الصدد جميعنا واقعيون ولا أحد منا كذلك. فالفن ليس رفضًا كاملًا ولا قبولًا تامًا لما هو عليه، إنه قبول ورفض في آن واحد، ولذلك يجب أن يكون ألمًا منفصلًا ومتجددًا على الدوام. ويعيش الفنان دومًا في حالة من الغموض، غير قادرٍ على نفي الواقع وإنكاره ومع ذلك مقيد إلى الأبد بالسؤال في جوانب أبديته غير المكتملة.
[…] سيكون العمل الأسمى دومًا هو العمل الذي يصم توازنًا بين الواقع ورفص الواحد لهذا الواقع، كل منهما يرغم الآخر على أن يطغى عليه في تدفق دؤوب، والتي هي ميزة الحياة أصلًا في أقصى حالاتها الأكثر إبهاجًا وفطرًا للقلوب. ثم وبين الفينة والأخرى يظهر عالم جديد مختلفٌ عن العالم اليومي ومع ذلك يشابهه، خاصٌ ولكن عالمي، طافحٌ بالأبرياء منعدمي الأمان مُستحدثٌ وجودهم لساعات قليلة بقوة العبقرية و حنينها. إنه كذلك وليس كذلك أيضًا هذا العالم لا شيء وهو كل شيء أيضًا، وهذا هو أيضًا تناقض كل فنان حقيقي وصرخته الدؤوبة، الصرخة التي تبقيه واقفًا على قدميه بعنين مفتوحتين و بيقظة بين الفينة والأخرى عن كل هؤلاء الغافلين عن الزوال في هذا العالم ومصرين على الصورة التي نسلم بها عن العالم دون حتى معرفته.
إن هذا التعرض بين الحاضر والمستقبل، بين ما هو كائن وبين ما يمكن أن يكون، بين المعاناة وبين تجاوز المعاناة هو التربة الخصبة للفن يكتب (كامو) فيقول:
لا يقدر الفنان على أن يشيح بنظره عن زمانه ولا أن يغوص فيه.. والرسول -دينيًا كان أو سياسيًا- يمكن أن يحكم حتمًا ولن يتورع عن ذلك كما هو معروف، لكن الفنان لا يقدر على ذلك. فإذا حكم حكمًا حتميًا سيقسم الواقع تعسفًا إلى خير وشر ومن ثم سينغمس في الميلودراما. والفن على النقيض من ذلك لا لسن التشريعات أو ليسود بسمو ولكنه للفهم قبل كل شيء، و أحيانًا يسود بسمو كنتيجة للفهم. ولكن لم يبنَ أي عمل عبقري أبدًا على الكراهية والازدراء. ولذلك فالفنان في نهاية تقدمه البطيء يغفر بدلًا من أن يدين، وبدلًا من كونه حكمًا هو مبررٌ. ودفاعه ودعوته الأزلية هي عن المخلوق الحي لأنه حي.
[…] ربما تكمن عظمة الفن في التعارض بين الجمال والألم، حب البشر و جنون الخلق، العزلة التي لا تُحتمل و الوجود المرهق بين الجموع، بين الرفض و الموافقة… على الحافة التي يسير الفنان فيها متقدمًا كل خطوة من خطواته هي مغامرة، مخاطرة شديدة. ولكن وفي تلك المخاطرة وتحديدًا في تلك المخاطرة تكمن حرية الفن.
قبل ست سنوات من تأكيد (جون كيندي) في واحد من أعظم الخطابات على أن الفنان هو صوت المجتمع الأولي لمقاومة الظلم يضيف (كامو):
حاولتُ تعريف الفن بمقتضى جوهره الحر وتوحيده حيث ينتشر الاستبداد. وبالتالي ليس مفاجئٍ أن على الفن أن يكون العدو المحدد بكل شكلٍ من أشكال القمع. ولا غرابة أنه على الفنانين والمثقفين ان يكونوا الضحية الأولى للاستبداد الحديث … يعرف الاستبداد أن في العمل الفني قوة تحريرية غامضة فقط لأولئك الذين لا يقدسونها. كل عمل عظيم يجعل وجه الإنسان أكثر تقديرًا وأغنى وهذا هو سره الكامل. ولا تكفي آلاف معسكرات الاعتقال و لا الزنازين على إخفاء شهادات الكرامة المذهلة. ولذلك ليس صحيحًا أنه يمكن اعتقال وتوقيف الثقافة ولو مؤقتًا لإفساح المجال لأخرى جديدة… لا وجود لثقافة دون إرث مهما ستكون أعمال المستقبل لأنها ستحمل كلها نفس السر: مكونة من الشجاعة والحرية، متغذية على جرأة وجسارة آلاف الفنانين من كل الأزمنة وكل الدول.
[المصدر]