الإنتاج الفني والسردي

السِمفونيّة الأولى لـ(جورج بيزيه)؛ عملٌ يستحقُّ الاستماعَ

"آه أيتُها المُوسيقى! يا لَكِ مِن فنٍّ جَمِيلٍ! ولكن ليسَ من حِرفةٍ أشقّ على النَّفسِ منكِ!"

مقدمة:

إنَّ مؤلِّفَ الموسيقى الفرنسيّ (جورج بيزيه) من أقل المُؤلّفين حظًّا؛ وما يدفعني لقول هذا ليس عدم شُهرة المؤلِّف، بَلْ إن شهرته قد تكون هي السبب في سوء حظّه. ماذا يعني هذا؟ حسنًا. إذا ذكُر اسم (بيزيه)، ما هو أول شيء يتبادر إلى الذهن؟ “أوبرا كارمن”؟ صحيح! ماذا أيضًا؟ لا شيء!

هنا اللَّعنة التي وقعت على (بيزيه)، بعد موته، إذْ لَمْ يسمح عمله الأوبراليّ السَاحِر هذا من إِعطاءِ الفرصة لبقية أعماله، التي لم تكن أقلَّ تميُّزًا، للبُزُوغ. هذا ما يمكن تسميته “لَعنة العمل الواحد“. 

ليس (بيزيه) فقط. لدينا الكثير من المُؤلّفين الملعُونين مثل: الألمانيّ (يوهان باخلّبيل) [Pachelbel]. فعلى الرَّغمِ مِن كَوْنِه مؤلِّفًا لأكثر من ٥٠٠ مُؤَلَّف مُوسيقيّ، فإنَّنا نعرفهُ ونسمعهُ في عملٍ واحدٍ (كاَننّ في مقام ري). الإيطاليّ (توماسو ألبينوّني) [Albinoni]، كتَبَ كونشيرتوهات بديعة، إلَّا أَنَّنا نتذكرهُ فقط في مُؤَلَّفٍ واحد ليس من كِتَابتهِ حتى! “آداجيو للوتريات والأُرغن”. ماذا عن “بِرليوز”؟ – السِمفونيّة الخياليَّة. (صامويل باربر)؟ – آداجيو الوتريات. (آرام خاتشاتوريان)؟ – رقصة السيف من باليه غايانه. القائمة تطول. صحيح أنهم وصلوا لمجدهم بكتابتهم لهذه الأعمال، لكن هذا لا يمنع من تجربة مؤلَّفاتهم الأخرى. هل من العسير علينا حقًّا أن نتصور هؤلاء كعظماء بدون هذه المؤلَّفات؟ 

أودُّ أن ألفتَ انتباه القارئ إلى أَنَّنا هنا سنعطي الفرصة لـ(بيزيه) للظُهور كمولف سِمفونيّ [Symphonist]. ففي عالم الكتابة السِمفونيّة، سَاهمَ (بيزيه) بعَملين:

  • [١] السِمفونيّة الأولى: سِمفونيّة في مقام دو ميجور.
  • [٢] السِمفونيّة الثانية: المُسمَّاة: سِمفونيّة روما أو السِمفونيّة الخياليَّة. هي أيضًا في مقام دو.

موجز تاريخي:

عاش (جورج بيزيه) حياة قصيرة، ٣٦ عامًا فقط. ولِد في ٢٥ أكتوبر ١٨٣٨م في باريس، ورَحَلَ في ٣ يونيو ١٨٧٥م. نشأته كانت في أسرةٍ محبة للمُوسيقى، والده مغنٍ هاوٍ وأمه عازفة بيانو. كان مثل (موتسارت) و(ماندلسون)، مُولَعًا بِالموسيقى، أظهرَ موهبة مُوسيقيّة في سنٍّ مبكرة واُعتبر “طفل معجزة” [Child prodigy]. بدأ دراسته في كُونسِرفاتوار باريس في خريف عام ١٨٤٨م، قَبْل إِتمامه العاشرة. كان أحد أساتذته هناك هو (جوزيف زيمرمان) [Zimmerman] الذي عرَّفه، في ما بعد، على المؤلِّف الفرنسيّ (شارل غونو) [Gounod]. أصبحت علاقة (بيزيه) و(غونو) على مستوى متقدِّمٍ: الطالب ومُعلّمه. والواضح أن (بيزيه) قد افتَتَنَ بـ(غونو) وصار تحت ظِلّه. 

خلال دراسته في الكُونسِرفاتوار، طُلِبَ من (بيزيه) ترتيب نسخة من سِمفونيّة (غونو) الأولى على البيانو [أربع أيادي]. هذا أَعطاهُ الفرصةً لفهم هيكليّة البناء السِمفونيّ في أعمال مُعلّمه. 

بعمرِ ١٧ سنة، بدأ (بيزيه) بكتابةِ أول عمل سِمفُونِيّ له. تاريخ مدونة السِمفونيّة هو: البداية “٢٩ أكتوبر، ١٨٥٥م” والانتهاء “نوفمبر ١٨٥٥م”. إِذَن اكتَمَلَ العمل في غضون شهر واحد. بعدها ظَلّت السِمفونيّة في مكانها في الدُرج وبين الأوراق، نُسيت، ولَمْ تعرضْ، أو تنشر، ولَمْ يأتِ ذكرها في مراسلات (بيزيه). 

[هنا تَكّهُنّ حول سبب عدم رغبة (بيزيه) في أَداءِ العمل (راجع المصدر ٤)] إن التَّشابه بين السِمفونيّة الأولى لـ(بيزيه) والسِمفونيّة الأولى لـ(غونو) [التي عرضت في فبراير ١٨٥٥م]، قد يكون هو السبب في عدم تحمس (بيزيه) لعرض أو نشر سِمفونيته الجديدة. لَمْ يكُنْ يريد أن يُتَّهم بسرقةِ الأفكار من (غونو). حيث إنّ سِمفونيّة (غونو) ذائعةُ الصِّيتِ كانت تمثل عملاً بارزًا خلال تلك الفترة. ورغم عدم وجود اقتباس حرفيّ من عمل (شارل غونو)، إلّا أنَّ التَّشابه في هيكليّة العمل، وطريقة التوزيع الأوركستراليّ، ومعالجة الألحان واضح جدًّا. وتَظلُّ القضيةُ الكبرى: هل رأى (غونو) السِمفونيّة؟ [قد لا نعرف!]

بعد وفاة (بيزيه) المفاجئة أصبحت أَرمَلَتهُ (جَنَفيّف) [Geneviève] تمتلك تَّرِكَة زوجها من المدوَّنات المُوسيقيّة والمخطوطات. لم يكن لديها اهتمامٌ جادٌّ بنشر السِمفونيّة [ربَّما لأن زوجها لم يهتم بذلك أو لأنها اعتبرته عمل من أيّام الدراسة والصبا، وليس فيه النُّضْج الكافي ليحمل اسم (بيزيه)]. 

في ١٨٨٦م، تزوجت (جَنَفيّف) من محامٍ ثري، وعاشت حياتها كسيدة مجتمع بارزة، حتى تُوفِّيَت في ١٩٢٦م ولحقها زوجها بعد عامين. قام ابن أخو زوجها بتقديمِ العديد من الأوراق والمخطوطات التي كانت عند (جَنَفيّف) إلى مكتبة الكُونسِرفاتوار. ثم زاد عليها في عام ١٩٣٣م صديق (جَنَفيّف) المقرب (رينالدو هان) [Reynaldo Hahn] بتقديم مخطوطات أخرى كانت قد تسلمها من صديقته، واحتوت ضمنها على مدوَّنة السِمفونيّة الأولى

في نفس العام وبين شهري أغسطس وسبتمبر نشر كاتب السّير والمختص في المُوسيقى (جان شانتَفّوان) [Jean Chantavoine] عدة مقالات في الدورية الفرنسية (Le  Ménestrel) يقدِّم فيها هذا المخطوطات. اهتمَّ (شانتَفّوان) على الخصوص بالسِمفونيّة في مقام دو ميجور وباقي الأعمال التي لَمْ تَرَ النور في حياة (بيزيه).

 هذه المقالات أثارت اهتمام كاتب سيرة (بيزيه) البريطاني (دوغلاس باركر) [D. C. Parker] ما دفعه إلى عرض المدوَّنة على قائد الأوركسترا (فيلكس فاينغارتنر) [Felix Weingartner] فوافق على اقامت العرض الأول للسِمفونيّة. 

بعد ٨٠ عامًا من كتابتها و٦٠ عامًا من رحيل المؤلف، سَمِعَ الجمهور السِمفونيّة لأول مرة في ٢٦ فبراير ١٩٣٥م في مدينة بازل في سويسرا. وقد إثارة ضجة كبيرة، ولاقت قبولاً واسعًا في أشهر مُدن العالَم. 


حركات العمل:

يأخذ العمل شَّكل السِمفونيّات الكلاسيكيّة المتكوِّنة مِن أربع حركات. موزَّعة بناءً على أفكارٍ مشوِّقةٍ وواضحةٍ. 

الحركة الأولى: (أليغرو) مرح

تبدأ السِمفونيّة بحركةٍ سريعةٍ ومبهجةٍ. فمُنذُ اللَّحظةِ الأُولى نشعر بتوزيع أوركستراليّ جذَّابٍ للغاية وألوان لَحنية بَهِيّة. الإيقاع السَّلَس الراقص الذي تصنعه الطبول والنحاسيات يدغدغ الأُذُن، ومناسب لأجواء السِمفونيّة مع كُلِّ الألحان المدهشة التي تدخل بها آلات النفخ الخشبية. إنَّها عبقريةٌ فعلاً ما قام به (بيزيه) في هذه الحركة وباقي الحركات. 

كُتِّبت الحركة على صيغة السوناتا. في قسم العرض هناك موضوعان اثنان. تأخذ الوتريات الموضوع الأول مع أجواءه المندفعة. هو لَحنٌ مُمتدّ ذو تركيبة بسيطة. إنَّ ذلك التحوُّل من بَيَان الأوركسترا الصاخب إلى الردود الناعمة لآلات النفخ الخشبية هو من أروع الجُمل الموسيقيّة المفعمة بالسعادة. 

يدخلنا الموضوع الثاني في فسحة ناعمة وهادئة بـ”صول” للأوبو مع مرافقة الوتريات (بيتسكاتو). 

في قسم التطوير، يقوم (بيزيه) بمعالجة جزء من الموضوع الأول لبرهة قصيرة، ثم يدخل الهورن الفرنسي بمادة انتقالية فخمة لمعالجة الموضوع الثاني. يستمر هذا الترتيب كامل قسم التطوير الذي يهيمن عليه الموضوع الثاني، فتتم معالجته عدة مرات وعرضه على مختلف الآلات. 

ينتهي قسم التطوير بحوار قصير بين الهورن الفرنسيّ والفلوت. 

في قسم التلخيص (إعادة العرض) يهيمن الموضوع الأول عليه ثم يعرض الموضوع الثاني هذه المرة بواسطة الفلوت. 

ينهي (بيزيه) الحركة مع كودِاتا [Codetta] قصيرة مجتَزئة من مطلع الموضوع الأول. 

 الحركة الثانية: آداجيو

هذا الآداجيو هو أطول حركات السِمفونيّة. تبدأ الحركة بمقدّمة مرتقبة ومنتظرة، ليدخل الموضوع الأول، صول للأوبو ذا طابع شَرقِيّ يسير بأسلوب متفرد مع نقرات (بيتسكاتو) الوتريات. 

يستمر هذا اللّحن الغنائيّ حتى ينبثق منه، ويفسح المجال، للموضوع الغنائيّ الثاني بواسطة الوتريات مع استمرار النقرات (بيتسكاتو): لَحن شجيّ، متوتِّر، مُثقَل، وحزين. 

تحتوي هذه الحركة على جزء متناقض في وسطها عبارة عن فيوغا مستندة على الموضوع الأول، كتبها بيزيه ببراعة. تبدأها الوتريات بالتتابع وتنتقل لكامل الأوركسترا. 

ترجع مقدّمة الحركة مرة أخرى ثم الموضوع الأول بشكلٍ جميل، وبعدها يعرض الموضوع الثاني لفترة وجيزة. وتختتم الحركة مع جزء الأوبو المنفرد وتتلاشى باستخدام بيانيسيسمو [pianississimo]. 

الحركة الثالثة: اسْكرتزو 

أقصر حركات العمل ومقسَّمة إلى اسْكرتزو وتريو، وهو الشَّكل التقليدي للحركة الثالثة. 

تفتتح مادة الـ اسْكرتزو بآلات النفخ الخشبية، وتبدأ الحوارات بين هذه الآلات وباقي الأوركسترا. التَّشويق والتلهُّف الشديد الذي يَبعثه الفلوت والأوبو بنغمةٍ سريعةٍ وطويلةٍ قادمة من بعيد لتتصدَّى لها الطبول، وتبقى الفيولات متدفقة منتقلة إلى لَحن هادئ شاعريّ للوتريات مع (بيتسكاتو) وردود الهورن الفرنسي. 

قسم التريو يستخدم نفس لَحن مادة الـ”اسْكرتزو”. برَعَ (بيزيه) في هذا القسم، إِذ أَضفَى صبغةٍ رعويّةٍ متأنِّيةٍ عليه. 

يغلب التكرار على هذه الحركة، وتختتم بمادة من الـ”اسْكرتزو”.

 الحركة الرابعة: (أليغرو) نابض بالحياة

أَنجزَ (بيزيه) تُحفةً أوركستراليّة حقًا في هذه الحركة: المكتوبة بحرصٍ وتأني. أجواءها السريعة الفَيَّاضة تَتمَحْورُ حول ثلاث موضوعات. 

يُقدِّمُ (بيزيه) الموضوع الأول بواسطة آلات الكمان المشحونة. ثم تستريح الوتريات، وننتقل للموضوع الثاني الحازِم على آلات النفخ الخشبية مع الطبول التي تصنع أجواء “مارش عسكري”، ويعاد الموضوع الثاني على كامل الأوركسترا. 

الهدوء القصير في الموضوع الثالث مع الوتريات التي تنظم إليها الخشبيات في ما بعد. ثم نصبح أمام مادة انتقالية يكون الأجمل فيها هي الدعابة والمحاكات الساخرة بين الكمان الأول والثاني. 

تتشابك كل هذه الألحان في قسم التطوير، مع معالجتها البارعة، وتعاد الموضوعات الثلاث بالترتيب حتى يختم العمل بقوة باستخدام المادة الانتقالية. 


الملحقات:

عنصر الرقص وجمال الإيقاع في هذه السِمفونيّة ألهمَ مُصَمِّم الرقصات (جورج بالنَتشين) [George Balanchine] عام ١٩٤٧م على وضع رقصات باليه على أنغام العمل. وعرضت الباليه لأول مرة في ٢٨ يوليو ١٩٤٧م، على أرض مسرح الأوبرا الوطني في باريس. تمثل هذه الباليه تجربة مُغرِية وناعمة للمشاهد، خُصُوصًا إذا كان قد سَمِعَ السِمفونيّة من قَبل. 

هذا السِمفونيّة جديرةً بالإعجاب، تُمثِّل ثمرةً ناضجةً من ثِمارِ (بيزيه)؛ إذ تَحقَّقَت فيها، إلى حدٍّ كبيرٍ، صورة السِمفونيّة الكلاسيكيَّة، الممتعة، الاحتفالية، وراقصة. عملٌ نابضٌ بالحياة لشابٍّ أحبَ موسيقى مُعلّمه واتبع أُسلوبه.


المصادر:

  •  (1) Hugh MacDonald: Bizet, (Oxford: Oxford University Press, 2014). 
  • (2) Ethan Mordden: A Guide to Orchestral Music: The Handbook for Non-Musicians, (New York: Oxford University Press, 1980): p. 240-1. 
  • (3) Donald N. Ferguson: Masterworks of the Orchestral Repertoire: A Guide for Listeners, (University of Minnesota Press, 1954): p. 128-130. 
  • (4) Howard Shanet: “Bizet’s Suppressed Symphony”, The Musical Quarterly, Vol.44, No.4, Oct.1958: p. 461–476. 
  • (5) Nat Shapiro: An Encyclopedia of Quotations about Music, (A Da Capo paperback, 1981): p. 115
  • (6) Website (Fugue for Thought): “Georges Bizet: Symphony in C” 
  • (7) Blogspot (Musical Musings): “Bizet – Symphony in C Major” 

بقلم: أحمد قادم

مراجعة وتحرير: أحمد بادغيش

زر الذهاب إلى الأعلى