لماذا نقرأ؟ .. “لا نقرأ لأننا نريد العثور على النهاية، فقط لأننا نريد مواصلة القراءة”، مانغويل يقول
"نحن نقرأ كالكشافة الذين يقتفون الخطى ناسين كل ماحولهم من أشياء"
ألبرتو مانغويل – الكاتب الأرجنتيني- معروف بشغفه الواسع بالقراءة. لديه العديد من الكتب الهامة التي تؤرخ للمكتبة وللقراءة مثل “تاريخ القراءة” و”المكتبة في الليل” وغيرها. بعد أن استعرضنا سابقاً الغاية الحقيقية من القراءة عند مصطفى ناصف، يستعرض مانغويل في كتابه “تاريخ القراءة” نفحة من تأملاته وتجاربه الأولى مع القراءة فيقول:
إننا نقرأ كي نفهم أو من أجل التوصل إلى الفهم. إننا لانستطيع فعل أي أمر مغاير. القراءة مثل التنفس ؛ إنها وظيفة حياتية أساسية.. إن تعلم القراءة كان المستهل الذي بدأت فيه حياتي، وبمجرد أن تعلمت فك رموز الأحرف بدأت أقرأ كل ماكانت تقع عليه يدي: الكتب، العناوين، الإعلانات، الكلمات الصغيرة المكتوبة على تذاكر وسائط النقل، الرسائل المرمية، الغرافيتي، صفحات الجرائد المهترئة الملقاة تحت الجلسات في الحدائق العامة. كنت استرق النظر في باصات نقل الركاب وأحاول معرفة مايقرؤه الركاب، وعندما قرأت في أحد الأيام أن ثيربانتس كان يطالع -من فرط حبه للقراءة- حتى قصاصات الورق المرمية على قارعة الطريق، أحسست بشعور جميل لأنني كنت أعرف ماذا يعني هذا.
إن احترام الكتابة (في الكتب أو على الشاشات) ناحية تتميز فيها كل الثقافات التي تعرف الكتابة. ويتميز الإسلام عن بقية الأديان الأخرى في هذه الناحية بالذات: فهو لايرى في القرآن كتابا منزلا من الله وحسب، بل صفة من صفات الله، تماما مثل حضوره في كل زمان ومكان ومثل رحمته.
استقيت تجاربي الأولى من الكتب ، عندما كنت مثلا أواجه حدث ما أو أرى مشهدا من المشاهد، أو أتعرف على شخص معين، فإن جميع تلك الأشياء كانت تذكرني بأمر كنت قد قرأت عنه، مما كان يولِّد عندي على الفور الإحساس بأنني كنت أعرف كل ذلك نظرا لأنني كنت أرى الحدث الحاضر -كالشيء المقروء- كان قد صادفني مرة من المرات، وبأن إشارة معينة كانت قد أتت على ذكره في موضوع ما.
تشير الوثيقة العبرية القديمة عن التفكير النظامي والموجودة حتى يومنا هذا سفر الجزيرة (sefr yezirah) التي نشات في فترة ما من القرن السادس إلى أن الله خلق العالم من اثنين وثلاثين سراطا من الحكمة، الأسفار أو الأرقام العشرة واثنين وعشرين حرفا.
فمن الأسفار خلق الأشياء المجردة، ومن الأحرف الاثنين والعشرين خلق جميع الكائنات والأشياء الواقعية للأطوار الثلاثة لمنشأ الكون: العالم ، الزمن، والجسم البشري ،. ويتمثل عالم التقاليد اليهودية المسيحية في مخطوطة من الأحرف والأرقام؛ يكمن مفتاح فهم العالم في قدرتنا على قراءة هذه الأحرف والأرقام بصورة صحيحة والتحكم في المؤالفات القائمة فيما بينها من أجل بعث الحياة في قسم صغير من النص الجبار محاكاة لخالقنا (على حد أسطورة تعود إلى القرن الرابع الميلادي كان عالما التلمود حناني وهوشايا يدرسان مرة واحدة في الاسبوع سفر الجزيرة، حيث تمكنا بعد مؤالفة الأحرف بصورة صحيحة، من خلق عجل عمره ثلاث سنوات تعشيا به).
نعرف لماذا نقرأ حتى عندما لا نعرف كيف نقرأ، في الوقت نفسه نحتفظ في عقولنا بالعالم الظاهري للنص ونتمسك بفعل القراءة. إننا لا نقرأ لأننا نريد العثور على النهاية، فقط لأننا نريد مواصلة القراءة، نحن نقرأ كالكشافة الذين يقتفون الخطى ناسين كل ماحولهم من أشياء، نقرأ شاردي الذهن متجاوزين بعض الصفحات نقرأ باحتقار، بإعجاب ، بملل، بانزعاج بحماسة بحسد وشوق. في بعض الأحيان تعترينا فرحة غامرة مفاجئة دون أن نستطيع القول ماهو السبب “بحق السماء ماهي هذه العاطفة ؟ ” سألت ربيكا وست بعد الانتهاء من قراءة الملك لير.
“ماذا تتميز به أعمال الفن العظيمة التي تمارس علي هذا التأثير الباعث على السعادة؟”. إننا لانعرف ذلك.. عند القراءة نحن سذج. نحن نقرأ بحركات بطيئة وطويلة كما لو كنا نسبح في الفضاء، نحن ممتلئون أحكاما مسبقة وأحقادا أو أننا كرماء نغفر للنص عيوبه ونتغافل عن ضعفه ونصحح أخطاءه.
في بعض الأحيان، عندما تكون السماء صحوة صافية نقرأ بأنفاس محبوسة بارتجاف، كما لو أن أحدهم قد “سار على قبرنا”، كما لو أن ذكرى قديمة منسية عثر عليها فجأة في داخلنا. التعرف على شئ ماسبق أن عرفنا أنه كان موجودا أو على شيء لم نشعر به إلا كوميض أو ظل، الذي ينطلق منا ويعود إلى داخلنا قبل أن نعرف ماذا حدث.. بعدئذ نكون قد تقدمنا في السن وأصبحنا أكثر حكمة.
لا تنس مشاهدة كلمة ألبرتو مانغويل في فعالية “إقرأ” والتي ألقاها على مسرح أرامكو في مدينة الظهران بعنوان “بهجة القراءة“.