تأثير نشأة (سيمون) في تشكيل تصوراتها الذهنية حول مفاهيم مهمة
"كنت أحس وجود الله هناك -في الريف- أكثر مما أحسه في باريس"
كانت طفلة سمراء ذات عينين زرقاوين، عنيدة مدللة، اعتادت على الانبطاح والصراخ والتشنج كطريقة غريبة للتعبير عن غضبها وحرمانها من حاجتها، فضلًا عن مد اللسان سخرية أو إدارة ظهرها للكبار، الذين يكتفون بالضحك، وربما كانت هذه التصرفات تنبئ بتمردها المستقبلي على المراسيم والعادات والقواعد التي وضعها الكبار. وحين نشبت الحرب العالمية، اضطرت الأسرة للتخلي عن البيت الواسع إذ انتهى زمن النعيم القابع خلف الستائر الحمراء المخملية والآرائك الوثيرة، والمواقد الفاخرة والألواح الفنية النادرة وأقداح الخمر المعتقة والمكتبات الضخمة، ورحلت المربية الرقيقة، وزمن السكاكر والحلويات.
قيل لها أن الله سينقذ دولتها حين تتحلى بالتقوى ولذا كانت الكنيسة هو مأوى الاتصال بالله القدير. إنها (سيمون دو بوفوار) أيقونة النسوية ورفيقة درب رائد الوجودية (جان بول سارتر). و هنا تحليلات خاطفة مختارة تتضمن أقوى انعطافات نشأتها تأثيرًا عليها وذلك من كتابها (مذكرات فتاة رصينة) تحكي مذكراتها إلى حين العشرينات من عمرها قبل عقد الارتباط برفيق نضالها (سارتر).
١. ازدواجية التوجه لدى الوالدين وانعكاس إخفاقات الواقع في التعامل و التربية.
تقول في مذكراتها: “فإن فردية أبي وأخلاقياته المتحررة، كانت تعارض أخلاقيات أمي التقليدية القاسية”، إن الازدواجية في التوجه بين الأب الذي يجسد العقل في الثقافة وبين الدين الذي كان يتمثل في الأم التقية، أوحى إليها بأنه لا مشاحة في الفصل بين الفكر والروحانيات، وإن كان الأب لا يبدو مؤمنًا فهو يتندر على المعجزات ولا يحضر القداس، إلا أن منزلته التي كانت تجسد الهيمنة العليا والإرادة الماضية وتمثل الحفاوة الأبوية الكاملة من خلال الاعتراف بمَلكاتها العقلية المذهلة والإشادة بتفكيرها الذي تتشبه به، تأكيدًا لإقراره المستمر بأنها رجل يشبهه.
وإن كانت منزلته الخفية بدأت تترنح في جانب من عقلها، وإن حاول جاهدًا إخفاء إخفاقاته الداخلية خلف ضحكاته الهزلية، ولا مبالاته، إلا أنه يبدو أفضل حالًا من حنو الأم وتدليلها ورعايتها التي تراجعت لا سيما وأنها لم تعد تحتمل رحيل الخدم والقيام بأعباء البيت بمفردها ودون تقديم خدمات بسيطة من طفلتيها المدللتين.
وحين كبرت وبلغت الخامسة عشر وقد غزت البثور وجهها، ولم تكن تعتني باختيار هندامها وزينتها، إذ كانت تؤثر دراستها وقراءة الكتب والروايات، تقول: “كان أبي يجدني قبيحة و يغيظه ذلك، و كانت أمي تحاذر هذا التبدل الغامض”، إلى أن تكمل “و قد هبطوا هم أنفسهم من منزلتهم في نظري”.
المراقبة الدقيقة من قبل الوالدين لكل ما تقرأه وتقع عيناها عليه من الكتب لم تجد نفعا مع ابنة متمردة تنزع إلى الحرية الكاملة ومستعدة للثورة في حال ممارسة أدنى حد من الضغط عليها.
وإن كان وعيها المبكر، وتفكيرها المتفرد، منحاها قدرة على الفصل بين محتوى ما تقرؤه من روايات عاطفية “محظورة وخفية” وبين واقعها، فهي كما تصف نفسها ووفقًا لتربيتها الدينية من جهة والدتها، فهي تعتقد أن تلك الروايات تنتمي لمجتمع فاسد، ولكنها محاولة منها للهروب من الواقع.
٢. عثورها على الصداقة الحقيقية، ودرس مُرّ ولاذع في الحرية.
تقول: “كانت تسليتي الرئيسة طوال السنة هو لقاء الصديقات. والواقع بدأت أشعر أن حياة كل منهما بدأت تحيد عن حياتي، و لكنهن بدأن يبعثن في نفسي الملل باستثناء (زازا)، فبينما أنا مضيت الى الأمام أنمِّي معارفي وإدراكي، ضللن هن في أماكنهن، بعد أن توجهن نحو الزواج”، فمن هي (زازا) الأثيرة لدى (سيمون)؟
أحبت صديقتها (زازا) التي بدورها تنتمي لعائلة بورجوازية عريقة، وعثرت بصحبتها ما خسرته لدى أسرتها، فضلًا عن الساعات الطوال التي يقضيانها في تبادل الكتب، وما يُعقد بينهما من مطارحات فكرية ونقاشات فلسفية. إلا أن (زازا) عُرفت بانتمائها لأسرة متدينة، وأغلب أحاديثهن حول القيم والإحسان والله، وكانت شديدة الذكاء حتى أنها أدركت حجم النفاق الذي تعيشه أسرتها؛ فهم في الحقيقة لا همّ لهم إلا المال والمظاهر الخادعة، وقد كانت تحتمي منهم بالسخرية والنقد.
وعلى الرغم من ذلك فقد احتفظت بعلاقة حميمية بأمها، و نظرًا لخضوعها الكامل للموروث الديني المسيحي والذي من تعاليمه طاعة الأم وبرّها، فقد نجحت في اجتياز اختبارات لها في الطاعة، حين آثرت الرضوخ لقرار أمها التي رفضت تزويجها من قريب لهم أحبته لمجرد أنه ينتمي لأسرة فاحشة الثراء تدور شكوك حول مصادر ثرواتهم. وانقادت لأمها مرة أخرى حين أرسلتها لبرلين في محاولة منها لإبعادها عن صديقتها بأفكارها العدمية المسمومة. (زازا) فتاة ذكية وناقدة ساخرة ولكنها تتحول في بيت أهلها الى ابنة مطيعة ولطيفة وودودة تتخلى عن امتيازاتها الفكرية الرصينة وأساليبها النقدية اللاذعة، وتخضع لتقاليد العائلة في استقبال الضيوف وتقديم واجبات الاحتفالات التي لا تنتهي.
تقول عنها في موضع آخر:
كنت أؤاخذ عليها انهزاميتها وكانت هي تجد في تفاؤلي دليلًا على أنني كنت أنسجم مع الوضع القائم، وبالرغم أننا كنا مقطوعين عن العالم؛ هي بيأسها وأنا بأملي المجنون، إلا أن وحدتنا لم تكن لتوحدنا، بل على العكس كانت إحدانا تحذر الأخرى بغموض، وكان الصمت يكثف ما بيننا.
هذا كله لم يشفع لـ(زازا) حين تولعت بشاب آخر، ولكن صادمت أمها قرار الزواج بالرفض القاطع باعتباره صديق جاء من طرف صديقتها تلك الفتاة المنبوذة لكونها غير مؤمنة بالمسيحية. ولكن هذه المرة لم تتمكن (زازا) المعتلّة في صحتها من اجتياز الاختبار. حين اشتد بها المرض، وفي لحظة ما همست لأمها من خلال أنفاس ضعيفة ومتقطعة و جسد متهاوي فارقته الحياة: “لكل بيت زبالة و كنت أنا زبالة هذا البيت”. وعند نعشها المكشوف الذي سجي بداخله وجهًا مصفرًا و جسدًا هزيلًا، أعلنت صديقتها كفرها بكل المراسم التي تصادر الحرية.
٣. مؤسسة الزواج قيد أبدي وروتين متكرر من المهام لا طائل من ورائها.
منذ طفولتها كانت تسأل كيف يقوى من يحب أهله لعشرين سنة أن يتركهم لشخص مجهول؟ و لأن لديها تعلقًا بالحرية، حتى أنها لا تتنازل عن قدر منه ولو كان ضئيلًا، فكثيرًا ما كانت تستاء من فكرة الزواج لمجرد أن فكرة التشارك فيه قد يحرمها البكاء براحة على الوسادة! و حين كانت تساعد والدتها في بعض أعمال المطبخ، كانت تراقب عبر النافذة المطابخ المجاورة للجارات اللواتي ينشغلن بغسل الأطباق وتقطيع الخضار، وكثيرًا ما كانت تتساءل عن هذه الساعات التي تتكرر إلى ما لا نهاية، ولا تفضي إلى شيء.
وكثيرًا ما كانت تفزعها رتابة حياة الكبار؛ “حياتي لا بُد أن تضفي إلى مكان ما”، ولحسن حظها – كما ترى- أنها ليست مرصودة لحياة عائلية بيتية، إذ كثيرًا ما كانت تسمع والدها يقول لها ولأختها أنه لا يملك مهرًا كافيًا لهن، ولذا فهن لن يتزوجن ولا بُد لهن من إيجاد عملًا.
وفي موضع آخر من مذكراتها تصف موقفها من زوج المستقبل فتقول: “أود أن يكون كل شيء مشتركا بين الرجل والمرأة، وعلى كل منهما أن يقوم إزاء الآخر بدور الشاهد الحقيقي، وهذا ينفي أن يحب المرء إنسانًا مختلفًا، إنني لن أتزوج إلا إذا التقيت إنسانًا شبيهاً بي. لا أحسبني أن أطلب بديلًا عن أبي، فقد كنت حريصة على استقلالي”.
٤. الحب المتأرجح والخيبة القاضية.
(جاك) ابن عمتها الذي يكبرها بأشهر بسيطة، وينتمي للطبقة البورجوازية نفسها، هو أحد رفقاء زمن الاكتشافات المذهلة واللعب الطفولي المشترك، ومن أوائل من تنبأ بالإمكانيات الدفينة والعبقرية المختبئة خلف جدران عقلها، و كثيرًا ما كان يعيرها الكتب لكبار الأدباء والفلاسفة، ثم يقضيان وقتًا ممتعًا وطويلًا في مناقشة محتواها، تقول عنه: “إنه كثيرًا ما كان يثير مواضيع تشغل تفكيرها واهتمامها، ولم تجده مدعيًا على الإطلاق، وكان يعرف عن العالم والناس والرسم والأدب أكثر مما أعرف، وكان في صوته من اللطف وكذلك في بسماته، ما ملأني سعادة لمجرد أنني رأيته من جديد وحين آويت إلى فراشي ووضعت رأسي على الوسادة نفرت من عينيّ الدموع، وقلت لنفسي بافتتان: أنا أبكي، إذًا أنا أحب! وكنت في السابعة عشر، سنة الحب”.
أحبته إلى درجة الوجد والشوق والبكاء سرًا في كل مرة يفارقها فيها، في حين أنه كان متقلبًا غامضًا أعياها عن فك رموزه، وفي الوقت نفسه أثار رغبتها في اكتشاف ما يخفيه خلف عباراته الغامضة ووعوده المتقلبة، وبمجرد أن يفتح فمه بوعدِ مفاجأة منتظرة حتى تعلق عليها آمالاً عِراض في أنه عرضًا عليها بالزواج، إلى أن عرفت مصادفة بأنه آثر عليها فتاة تنتمي لأسرة فاحشة الثراء أحبته و أغرته بمهر مرتفع. فأعلنت بعدها كفرها بمؤسسة الزواج.
٥. البحث عن الله تعالى، بين أحضان الطبيعة وكتب الفلسفة والفكر، ورجالات الكنيسة.
تقول: “كنت احس وجود الله هناك -في الريف- أكثر مما أحسه في باريس، وكنت كلما التصقت بالأرض ازددت قربًا منه، وكانت كل نزهةٍ صلاةَ عبادة لي. لقد جعل هذه الأرض للبشر وأنّى للبشر أن يحسوا بجمالاتها، وحينما كنت في الصباح اجتاز الحواجز عدوًا لأوغل في الغابات، فإنما كان هو الذي يناديني، وكان ينظر إليّ بغبطة، وأنا أنظر إلى هذا العالم الذي خلقه لأراه”. كانت وأختها يتشاركان الارتماء في أحضان الطبيعة حيث يكتشفا الشلالات ويتسلقا الأشجار ويسرقان من اللوز والجوز؛ لقد كانت (سيمون) عاشقة للجمال تتبع أصحابه، وتنتبه لدقائقه في كل شيء يقع نظرها عليه، ففي مواضع متفرقة وكثيرة في مذكراتها تصف ملامح وأدق تفاصيل ملابس كل من مر بها حتى وكأن القارئ يعاينه رؤيا العين. تقول :
كانت الطبيعة تحدثني عن الله؛ فكما أن البابا في الفاتيكان ليس له أن يهتم بما يجري في الدنيا، فإن الله في نهاية السماء ليس له أن يهتم بتفاصيل المغامرات الأرضية […] وكنت أصلي وأتأمل وأحاول أن ينفعل قلبي بحضور الله ولكن في الواقع كلما ارتفعت فكريًا إلى المعرفة، لم أكن أشعر بأني اقترب من الله، وكنت منذ السابعة قد اعتدت أن أعترف مرتين أمام (الأب مارتن) وكنت أحدثه عن حالاتي النفسية منها أنها تناولت القربان من غير حماس، وأنها تصلي من أطراف شفتيها، ونادرًا ما فكرت بالله، وكان يجيب على هذا بعظة ذات أسلوب رفيع، ولكنه ذات يوم أخذ يحدثني بلهجة مألوفة، بدلا من أن يتقيد بطقوسه المعهودة، وقال أنه قد بدا له أن (سيمون) الصغيرة بدت عفريتة وغير مطيعة! […] فالتهبت وجنتاي و بدأت أنظر بذعر إلى الدجال الذي كنت أظنه يمثل الإله، فإذا ثوبه الكهنوتي ليس إلا ثوبًا تنكريًا! وتركت كرسي الاعتراف ورأسي من نار، وقد عزمت ألا أعود إليه. ومنذ ذلك الوقت تمت القطيعة بيننا، ولكن الله خرج من هذه المغامرة دون أن يُمسّ، فترددت على كهان غيره كثر […] تبين لي أنه لم يعد هناك إنسانًا يجسد الله حقا، وأني بقيت وحدي تجاهه، وأنه بقي في أعماق قلبي حيرة من هو؟ ومن عساه أن يكون؟ وفي أي معسكر هو؟
“لم يكن أبي من المؤمنين وكان خيرة المفكرين يشاركونه تشككه، وإن الذين يرتادون الكنائس هم بالمجمل من النساء”، وتكمل (سيمون)، “و بدأت أشعر أنه من المفارقات أن تكون الحقيقة من امتيازات النساء. و كانت تفكر بأنه ليس هناك بلاء أكثر من أن يفقد الإنسان إيمانه! و كنت أسعى الى إخفاء ذلك، ومع ذلك فقد كنت أثق بأن القضايا الدينية لا تقنع إلا المقتنعين!”. وفي موضع آخر من مذكراتها تكتب:
وقد كان اهتمامي بالقضايا السياسية والاقتصادية أكثر من اهتمامي بحياتي الداخلية وعلاقتي بالله.
إلى أن صرحت بالكفر دون وجل، فها هي تقول: “إلى أن جاء اليوم الذي أعلنت فيه إلغاء فكرة الله”، ومما زادها تعنتًا وإنكارًا تحدث نفسها محتجة بشيء لا يرقى إلى مرتبة دليل، ولا يصلح إلا أن يوصف بمزيج من حالة نفسية غضبية وعقلية متعجرفة. “لو كنت آمنت به، لما أرتضيت أني أجرحه بهذه السهولة!”، وفي إعلان الرفض بغرض التمرد والتحدي والانتقام وإن كانت تحت غطاء طلب الحرية: “أنا لما نفيته لا لأتخلص من مضايق في حياتي، بل على العكس فقد لاحظت أنه لم يعد يتدخل في حياتي! وكان تشكك أبي قد فتح لي الطريق فلم أنغمر وحدي في مغامرة خطرة”.
إن رمزية السلطة لدى الأب واللطافة والمراقبة لدى الأم، والحكمة المفقودة لدى الكاهن، سقطت من عينيها، وقبلها من قلبها، حين تمردت وأعلنت تخليها عن الإيمان بالله تعالى وجلّ.
٦. الثقة المتينة في الأهداف وفي المستقبل.
لم يساور (سيمون) قط أدنى شك في أنها ستبلغ غاياتها، وتحقق أهدافها، وذلك يعود لما كانت تتمتع به من جموح هائل و شجاعة ملحوظة، تراجعت معها كل الشكوك والمخاوف، فضلًا عن أن أهدافها لم تفارقها ولم تخرج عن إطارها شبرًا، فقد كانت تصحبها حتى حين كانت في أكثر الأوقات غبطة وانتشاء. فها هي تقول في موضع آخر:
واضطجعت على أشجار الورق الميتة، و شرد نظري من خلال أوراق الكرمة الرائعة، و جعلت أحلم بكلمات: الليسانس والاغرايغاسيون، فإذا بجميع الحواجز وجميع الجدران تتطاير، لقد كنت أتقدم في واضحة النهار نحو حقيقة العالم، ولم يعد المستقبل أمًا بعد، فها أنا ألمسه، أربع سنوات أو خمس سنوات من الدراسة، ثم تأتي حياة بكاملها أصنعها بيدي، وستكون حياتي قصة جميلة تتحقق شيئًا فشيئًا كلما مضيت أرويها لنفسي.
هذه لمحات موجزة تتضمن انعطافات بارزة، من مذكرات لبدايات (سيمون) التي قضت عمرها في تأليف قصة حياتها، تبحث عن الكمال لهذه القصة، من خلال رسالة آمنت بها فها هي تنشد الحرية، وتناضل في سبيل الوجودية وتحارب الطبقية، و تقاوم لأجل مناصرة قضايا التمييز والعنصرية، وتبحث في الوقت ذاته، حتى لسنوات متأخرة من عمرها عن الحب وتخضع لانكساراته .. (سيمون) في كل حالاتها ومختلف مراحل عمرها. فاتها أن تدرك أن إعلان الاستسلام لمن استأثر بمراتب التعظيم والكمال والحياة والجمال هي الرسالة الخالدة والحقيقية.
بقلم: هدى مستور مراجعة: أحمد بادغيش