د. حجازي وحديثه عن القهر والهدر الاجتماعي
الدكتور مصطفى حجازي، أكاديمي ومفكر لبناني. حاصل على الدكتوراه في علم النفس من جامعة ليون بفرنسا، شغل مناصب استشارية مختلفة لعدد من المنظمات التابعة للأمم المتحدة. تعد أبرز كتاباته كتابي (الإنسان المهدور)، والجزء الثاني بعنوان (التخلف الاجتماعي). يتكلم الدكتور في كتابه (التخلف الاجتماعي ؛ مدخل إلى سيكلوجية الإنسان المقهور) عن القهر، فيبتدئ حديثه بأن يقول:
القهر يعني في التعريف القاموسي الغلبة والأخذ من فوق، وبدون رضى الشخص الآخر. وبالتالي فالإنسان المقهور هو ذاك المغلوب على أمره، الذي تعرض لفرض السطوة عليه من قبل المتسلط عنوة. وأما في تعريف التخلف الاجتماعي فيتمثل القهر في فقدان السيطرة على المصير إزاء قوى الطبيعة واعتباطها وقوى التسلط في آن معاً. أما الهدر فهو أوسع مدى بحيث يستوعب القهر الذي يتحول إلى إحدى حالاته. فالهدر يتفاوت من حيث الشدة ما بين هدر الدم واستباحة حياة الآخر باعتباره لا شيء، وبالتالي عديم القيمة والحصانة، مما يمكن التصرف فيه، وبين الاعتراف المشروط بإنسانية الإنسان، كما يحدث في علاقة العصبيات بأعضائها (هم مقبولون ومعترف بهم ومحميون يحظون بالغنم، ما داموا يمتثلون لسلطة العصبية ورغباتها ومنطقها). وفيما بين هذا وذاك يتسع نطاق الهدر كي يشمل هدر الفكر، وهدر طاقات الشباب ووعيهم، وهدر حقوق المكانة والمواطنة (بحيث تصبح المواطنة نوعاً من المنة يمن بها على الإنسان) ووصولاً إلى الهدر المتبادل في علاقات الصراع الثنائية والجماعية. يتفاوت الهدر إذن بين انعدام الاعتراف بإنسانية الإنسان كحد أقصى، وبين استبعاده وإهماله والاستغناء عن فكره وطاقاته، باعتباره عبئاً أو كياناً فائضاً عن الحاجة (كما هو شأن تعامل الأنظمة التي تستأثر بخيرات الوطن، وترى في جحافل الجماهير المغبونة والمحرومة عبئاً على رفاه المحظيين). كما قد يتخذ الهدر طابع تحويل الإنسان إلى أداة لخدمة أغراض العصبيات أو الاستبداد يضحى به في حروب النفوذ باعتباره الوقود الذي يغذي اشتعالها، أو أو الأداة التي تبجل وتطبل لسلطان مستبد وتخدم أغراض هيمنته وتوسع نفوذه. وقد يتخذ الهدر طابعاً ذاتياً كما يشاهد في الحالات المرضية التي ينخرط فيها المريض في عملية تدمير ذاتي وكياني نفسياً ومعنوياً ومكانة، أو حتى جسدياً.
يفرق حجازي بين القهر والهدر، حيث أن الأول هو ابن الثاني، فلا يمكن أن يتم أن يتحقق القهر إلا بعد تمكن وتفشي الهدر:
المهم في المسألة أن الهدر يضرب مشروع وجود المرء كي يصبح كياناً ذا قيمة وقائماً بذاته وذا دلالة ومعنى واعتبار وامتلاء وانطلاق، مما يمكن أن يلخص في بناء هوية نجاح هذا الوجود. الهدر على هذا المستوى هو نقيض بناء التمكين والاقتدار وصناعة المصير. ومن ذلك يتضح كيف أن الهدر يستوعب القهر، بحيث إنه لايصبح ممكناً –أي القهر- إلا بعد هدر قيمة الإنسان واستباحة حرمته وكيانه في عملية الإخضاع والإتباع. كذلك فإن القهر حين يحدث في علاقة الاستبداد أو علاقة تسلط بالإرغام، فإنه يترسخ ويعيد إنتاج الهدر ذاته، من خلال كل آليات الدفاع التي يلجأ إليها الإنسان المهدور في قهره (أبرزها التماهي بالمتسلط في سلوكه وأحكامه).
رغم أن الهدر أشمل وأعم من القهر، فإن كليهما يؤديان لذات النتائج:
ويشترك كل من الهدر والقهر في تفاقم المأزق المتراكم بحيث يصبح الوجود غير قابل للاحتمال والمواجهة. وهو ما يؤدي إلى بروز كل آليات الدفاع السلبية التي، وإن حملت توازناً بديلاً من نوع ما يجعل الحياة قابلة للاحتمال، إلا أنها تكرس الهدر والقهر وتعيد إنتاجهما من خلال تعطيل طاقات المجابهة والتغيير والنماء والانطلاق. وبذلك يدخل الإنسان المهدور في في حلقة مفرغة: يهرب من هدره وقهره (بوسائل دفاعية سلبية) كي يقع في عطالة المشروع الوجودي من خلال تبديد الطاقات الحيوية في خدمة الدفاعات التي توفر توازناً مرضياً. في الحالتين نحن بصدد كارثة وجودية من هدر الكيان، لابد من الوعي بدينامياتها وألعابها البائسة المدمرة، خارجياً (من قبل وكالات الهدر والقهر) أو ذاتياً من خلال الدفاعات المرضية تجاهها، وصولاً إلى مجابهتها، ذاتياً على الأٌقل، بانتظار توفر ظروف المجابهة الخارجية. ومن هنا يلعب كل من التفكير الإيجابي وتنشيطه عن قصد ووعي، والعواطف الإيجابية وتنميتها، والارتباط بقضايا كبرى دور فتح آفاق التحرر من الهدر والقهر.