الأبعاد الفكرية في الجنازة المرحة .. الرواية الروسية المعاصرة
تركز الكاتبة في هذه الرواية على اليهود الروس، الذين تركوا روسيا وهاجروا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت هجرتهم تعود إلى أسباب معروفة؛ وهي إما بسبب القمع الذي تعرضوا لهُ او التوق إلى الحرية.
تقدم لنا الكاتبة بطلًا عاش في حقبتين مهمتين في التاريخ الروسي -وهما الحقبة السوفياتية وما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي- ويمكن أن نطلق على هذا البطل “بطل من القرن العشرين”، وبما أن الكاتبة من الديانة اليهودية وعارفة بخبايا هذه الديانة، فقد اختارت لبطلها أن يكون يهوديا. وفي ذات الوقت كانت زوجة البطل من الديانة المسيحية، فهذا الاختيار لان يأتي بالصدفة بل مخطط له من قبل الكاتبة بعناية كبيرة، والهدف منه تسليط الضوء على مسألة الاختلافات الدينية بين هاتين الديانتين، لذلك نجدها تناقش هذه المسألة بطريقة غير مطروقة حين طلبت منه بإلحاح ان يُعمّد قبل وفاته، وكيف كانت ردة فعل البطل من هذه المسألة، فيقول: “هيّا، استدعي قسَّكِ، لكن بشرط أن تُحضري حاخامًا أيضا”.
بهتت (نينكا):
– هل تمزح؟
– لم لا؟ إذا كنتِ تريدين مني مثل هذه الخطوة الجادة، فلدي الحق أن أستمع إلى استشارة طرف ثانٍ، كان يعرف دائمًا كيفية الحصول على أقصى درجات المتعة من أي موقف. ”
على ما يبدو لي أن هذه الدعوة التي جاءت على لسان البطل هي إشارة واضحة من أجل التقريب بين الديانات، وقد استطاعت الكاتبة أن تتبنى هذا اللقاء بحرفية عالية من خلال بطلها، الذي تبنى مسألة الحوار بين القس والحاخام وينتهي هذا اللقاء بترك (الأب فيكتور) وحده في الشارع والكاتبة توحي لنا بأن القس تلقى إهانة شديدة من جراء تركه في الشارع.
أما المحور الثاني من هذه القصة هو المعاناة التي يعيشها اليهود والمسيحيّون في أمريكا، وقد استطاعت الكاتبة تصوير هذه المعاناة وتوثيق الأحداث التاريخية آنذاك. دعونا في البداية نكشف موقف البطل (آليك) من مسألة المهاجرين، فيقول:
… اتضح أن هذا البلد يجلس في قلوبهم وفي أرواحهم، ومهما كان ما فكروا فيه، مع إنهم كانوا جميعا يفكرون بشكل مختلف، فقد تبين أن ارتباطهم بذلك البلد لا انفصام له.
وهنا في هذا النص بالذات رسالة واضحة لمن يرغبون بالهجرة … بأن روسيا ستبقى تطاردكم حتى في أحلامكم، وبالتأكيد، نص (ليودميلا أوليتسكايا) يحمل إشارات غنية ومليئة بحبها لهذا الوطن، صحيح أن بطلها من الديانة اليهودية، ولكنهُ يبحث عن توحيد روسيا في داخله، وأكبر دليل على ذلك حينما جمع القس والحاخام في مسألة التعميد، وليس هذا فحسب، بل أخذت (مايكا) تسأل البطل:
“هل تحب روسيا؟ فيجيبها قائلاً: “بالطبع ، أحبها”.
ولم تتوقف (ليودميلا أوليتسكايا) إلى هذا الحد، بل عبرت عن رأيها من خلال أبطالها حول الحقبة السوفيتية بصرامة، فتقول:
الحزب الذي خلد نفسه بالجرانيت والرخام والفولاذ، انهار إلى تراب واختفى مثل الهلوسة.
وبالرغم من الحرية التي تتمتع فيها شخوص القصة، إلا أننا نجد صوت الكاتبة يظهر واضحًا ومعبرًا عن رأيه في مسائل عديدة … ومن هذه المسائل:
هذا البلد يكره المعاناة. لقد رفضها وجوديًا، ولم يعترف بها إلا بوصفها حادثا عابرًا متكررًا فحسب يتطلب الإزالة الفورية.
هذه الأمة الفتية التي رفضت المعاناة طورت مدارسَ فكرية كاملة – فلسفية ونفسية وطبية- مكرسة لمهمة واحدة؛ تحرير الإنسان من المعاناة بأي ثمن. لكن عقليته لم تستوعب هذه الفكرة بسهولة.
فالتربة التي تربّى عليها كانت تحب المعاناة وتقديرها، بل وحتى تتغذى عليها؛ لقد نشأت عقليته على المعاناة وكبرت معها وأصبحت أكثر حكمة.
وأخيرًا ، يلوح لي بأن (لودميلا أوليتسكايا) تريد ترسل رسالة للشعب الروسي وللإنسانية جمعًا بأن اليهود الروس ليسوا أقل شأنا بحبهم لهذا الوطن من أي روسي، حتى وان كانوا في الغربة. وبالتأكيد، الكاتبة استطاعت أن تبعث هذه الرسالة بصورة غير مباشرة عن طريق بطلها (آليك). وليس هذا فقط بل كشفت عن رؤيتها لروسيا من خلال (إيرينا) التي تروم بالعودة إلى روسيا وآنذاك تذكرت ما قاله (آليك) حول روسيا.
وهنا لابد من الاشارة إلى طريقة السرد التي تتمتع بها هذه الكاتبة، بحيث تجعلك تعيش مع الأحداث وتواكب الأحداث لحظة بلحظة وتتأثر بطريقة سردها شئت أم أبيت، حتى في مسألة أبطالها والحرية التي يتمتعون بها وكأنهم مستقلون ولا يوجد خلف الكواليس من يخطط لهم، أو كأنك تشاهد عرض سينمائي ولا ترغب بانتهاء هذا العرض الجميل وتتمنى ان يستمر.
وطبعا، كان للمترجم دوراً كبيرًا في نقل هذا العرض الرائع، الذي يستحق ان نعطيه من وقتنا.